للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك! ".

وروي عن الطرماح أنه قال٤٤ أنشدت حمادًا الراوية في مسجد الكوفة -وكان أذكى الناس وأحفظهم- قولي:

بان الخليط بسحْرة فتبددوا

وهي ستون بيتًا، فسكت ساعة ولا أدري ما يريد، ثم أقبل علي، فقال: أهذه لك؟

قلت: نعم. قال: ليس الأمر كما تقول، ثم ردها عليّ وزيادة عشرين بيتًا زادها فيها في وقته، فقلت: ويحك! إن هذا الشعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد. قال: قد قلت أنا هذا الشعر منذ عشرين سنة، وإلا فعلىَّ وعلىَّ. فقلت: لله علىَّ حِجَّة حافيًا راجلًا إن جالستك بعد هذا أبدًا. فأخذ قبضة من حصى المسجد وقال: لله علىَّ بكل حصاة من هذا الحصى مائة حجة إن كنت أبالي. فقلت: أنت رجل ماجن والكلام معك ضائع. ثم انصرفت.

وقال فيه الأصمعي: "كان حماد أعلم الناس إذا نصح وقال خلف: "كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب، وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها، وكان فيه حمق"٤٥. ومع أنه كان واسع العلم غزير المادة، حاد الذاكرة، فياضًا في الرواية، فقد كان لا يتورع عن الزور والادعاء كما يتبين من الحوادث التي ذكرناها آنفًا عنه، ويظهر أنه كان من الذين يعدون من المهانة ألا يجيبوا على كل سؤال يطرح عليهم، وقد أخذت عليه أبيات مخترعة، وتفسيرات للألفاظ مستغربة. ومن كان مثل حماد عديم التشدد أمام نفسه وأمام غيره فهو يقبل كل شيء من كل الناس دون رادع، فتعجبه الأسطورة، ويهوى النادرة التي يبدع خلقها، ويظهر حماد على مر العصور كآفة للرواية الشعرية، ونادى زعماء المدرسة البصرية بعدم الثقة به، وكان أكثرها ما أخذ عليه إجمالًا وضع الشعر الجاهلي ونسبته إلى غير أهله"٤٦ومات حماد سنة ١٥٦هـ-٨٧٢م.


٤٤ الأغاني جـ٦ ص٩٤.
٤٥ المصدر السابق ص٧٠.
٤٦ تاريخ الأدب العربي لبلاشير ص١١٢.

<<  <   >  >>