للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حدوث النقط والشكل. ومن ثم نجد الرواة -حتى من كانوا ينقلون عن كتب- يذكرون روايتهم بسند يوحي بأنهم أخذوها مشافهة وسماعًا، وعدوا النقل من الكتب عيبًا، قال ابن سلام في معرض حديثه عن الشعر القديم: "وقد تداوله قوم من كتاب إلى كتاب، لم يأخذوه عن أهل البادية، ولم يعرضوه على العلماء، وليس لأحد إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه أن ينقل من صحيفة ولا يروي عن صحفى"٢٢.

هذا طرف من الأخبار التي تؤيد وجود الكتب التي دون فيها الأدب الجاهلي، وكثير من هذه الأخبار التي سقناها يدل على أن تدوين الآثار الأدبية كان موجودًا قبل الإسلام. ولكننا لا نعرف بالضبط متى بدأ، ولا أي الآثار الأدبية كان أسبق في التدوين. ولا شك أن حركة التدوين كانت تتقدم مع الزمن شيئًا فشيئًا فبعد أن كانت قليلة أو في حدود ضيقة في العصر الجاهلي، أخذت تنمو وتطرد في الازدياد بعد ظهور الإسلام، واتساع الدولة الإسلامية، واختلاط العرب بغيرهم، وشيوع القراءة والكتابة، ووقوفهم على ما لدى غيرهم من علوم ومعارف ومدنية وتقدم، فهذه الظروف كلها أوجدت ميادين فسيحة للمجال الفكري والعلمي عند العرب، فاستحدثت علوم كثيرة كالتفسير والحديث والفقه واللغة والنحو، والبلاغة. وهذه كلها تحتاج إلي الأدب، ولهذا لا يخلو كتاب ألف في أحد هذه العلوم من آثار أدبية جاهلية، إذ إن جميع هذه العلوم تعتمد في تقرير أسسها ومبادئها على كلام العرب القدامى الفصيح، وبسبب ذلك دون كثير من الأدب الجاهلي في ثنايا هذه العلوم، وكلما تقدم الزمن، اتسعت آفاق الباحثين، فزاد تبعًا لذلك التأليف في هذه النواحي، ومن ثم اهتموا بالأدب القديم اهتمامًا عظيمًا، فوق ما كان له من الأهمية العظمى في نفوس العرب جميعًا قبل الإسلام، فتخصص بعض العلماء والباحثين في جمعه وتدوينه، وقد أشرنا إلى كثير من ذلك في حديثنا عن الرواة الذين ذكرنا نبذًا يسيرة عن بعضهم فيما سبق. ومما بيناه هناك يتبين أن حركة التدوين كانت في نشاط متزايد خلال القرنين الثاني والثالث وتدل الأخبار الموثوق بها على أن كثيرًا من هؤلاء الرواة قد عنوا بجمع الأدب الجاهلي وتدوينه، كل منهم بقدر ما استطاع، وأن اللاحق منهم كان يحاول أن يزيد عن السابق في هذا الميدان. وبعضهم كانت له تعقيبات وآراء في السابقين وأعمالهم الأدبية، كأنما كانوا يتبارون في الجمع والتدوين


٢٢ طبقات فحول الشعراء ص٥.

<<  <   >  >>