للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتتأجج عواطفه، فينطلق في فنه الرائع الأخاذ، مبدعًا نغمًا شجيًّا يفعل فعل السحر في نفوس السامعين والقارئين.

وقد ورد في الاستعمال الأدبي: الغزل والتشبيب والنسيب، وهي ألفاظ مترادفة، ولكن بعض النقاد حاولوا أن يفرقوا بينها، فقالوا:

الغزل: هو الاشتهار بمودة النساء، وتتبعهن، والحديث إليهن، والعبث بذلك في الكلام، وإن لم يتعلق القائل منهن بهوى أو صبابة.

والتشبيب: ذكر المرأة في مطالع الكلام، وما يتصل بذلك من ذكر الرسوم، ومساءلة الأطلال، توخيًا لتعليق القلوب، وتقييد الأسماع قبل المفاجأة بغرضه من الكلام، وقد يذكر فيه ما يحاول المتيمون من العشاق ستره من المحبوبة كالوعد واللقاء.

والنسيب: هو أثر الحب وتبريح الصبابة فيما يبثه الشاعر من الشكوى، وما يصفه من التجني، وما يعرض له من ذكر محاسن النساء.

والغزل في الآداب كلها، حديث الهوى والحب، وتصوير عواطف الرجل ومشاعره نحو المرأة، التي رأى فيها تمثالًا للجمال الإنساني، وهي في الوقت ذاته نصفه الذي يكمل حياته، وبها يتم ما يتمناه من راحة واستقرار وسعادة.

وقد احتل الغزل في الأدب الجاهلي، مكانًا ظاهرًا، وكان حظه فيه عظيمًا، وقال فيه جميع الشعراء، من اشتهر منهم، ومن لم يشتهر، واتفق الجميع فيه على جعله بدءًا لقصائدهم، وسار كل منهم فيه حسب ما يحلو له من وصف الحبيبة، وأثر حبها وفراقها في نفسه، وما يعانيه من عشقه لها وهيامه بها. ولكن الظاهرة الواضحة في غزل الجاهليين، أن الشعراء كأنما كانوا يتبارون في عرض محبوباتهم. فحاول كل منهم أن يصورها في أجمل خلق، وأحسن مظهر، وإن اختلفوا في الإجمال والتفصيل، أو في التصريح والتلميح.

وقد سار الشعراء الجاهليون جميعًا على تقليد التزموه في قصائدهم، هو افتتاحها دائمًا بالحديث عن الأطلال، والوقوف عندها والبكاء لديها، بسبب ما تثيره من الذكريات التي تثار لدى الشعراء عندما يرون ما أصبحت عليه ديار حبيباتهم بعد أن هجرنها، وقد كان لهم فيها معهن أوقات حلوة، لا ينسيها مر الزمن، ولا تغيب ذكرياتها عن البال، وإن تغيرت الديار إلى رسوم وأطلال. ولئن أردنا تعليلًا لهذه الظاهرة؛ فربما كان ذلك لأن رؤية الخراب بعد العمار، والخمود بعد الحركة، والوحشة بعد البهجة، مما يحرك العواطف والوجدان، ويثير

<<  <   >  >>