وهكذا حتى يغيب الموكب عن ناظريه، وقلبه في تلك الحالة يكاد ينخلع، بل إنه انخلع فعلًا، ورحل مع حياة النفس، وروح الفؤاد.
فإذا ما صار أمره إلى تلك الحال، انطلق مصورًا جمال الحبيبة التي ملكت القلب، فخلع عليها من آيات الحسن والبهاء، ما يصورها آلهة الجمال، وقد قيل في تعليل هذه الظاهرة إنها كانت لتهيئة النفوس للاستماع باهتمام إلى ما يريد الشاعر عرضه بعد. فتقبل عليه بروح عالية، وصدور منشرحة.
وبعد الانتهاء من الافتتاحية المختارة، ينتقل الشاعر إلى غرض آخر قد يكون الوصف، وقد يكون الفخر، وقد يكون المدح، وقد يكون الهجاء، وقد يجمع بين هذه الأغراض كلها في قصيدة واحدة، ومن ثم نجد القصيدة الواحدة تضم أكثر من موضوع، وتتجلى مهارة الشاعر الفنية في حسن الربط بين هذه الموضوعات، وجودة الانتقال من موضوع لآخر. وقد سبق أن تحدثنا عن ذلك في تحليل المعلقات.
ونحب هنا أن نذكر بما بيناه سابقًا من أن الشعراء الجاهليين كانوا هم الطبقة المثقفة الذين يتوجهون بحديثهم إلى من هم في مستواهم عقلًا وذكاءً في ذلك العصر، ومن نتاجهم الشعري تستطيع أن نتبين ذكاءهم وقدرتهم الفنية والبلاغية، فكثيرا ما كانوا يستعملون الأساليب البلاغية الراقية، ومن أكثرها شيوعًا لديهم المجاز بالحذف، اعتمادًا على ذكاء السامع وفطنته.