للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٦ ـ ويمكننا أن نقول إن فكرة الشعب العضوي (والقومية العلمانية) ككل هي حلولية مرحلة وحدة الوجود المادية (من النوع الثنائي الصلب) . فالمُطلَق حلَّ في المادة (الأرض والشعب والتراث أو الشعب المرتبط بأرضه وتراثه) وفقد تَجاوُزه وتنزهَّه وذاب في الشعب، بحيث أصبح الشعب هو ذاته القيمة المطلقة ومرجعية ذاته. ولعل النمط الكامن الأساسي وراء فكرة الشعب العضوي هو النمط الذي ورد في أسفار موسى الخمسة، فالعبرانيون أمة أو قبيلة اختارها الإله وحل فيها أو سكن في وسطها، وهو إله مقصور على أعضاء هذه القبيلة، ولذا كان ينتقل معهم في ترحالهم (أو كانوا يحملونه معهم في سفينة العهد) وكان يساعدهم (وحدهم دون سواهم) ضد أعدائهم ويغار عليهم، وكانوا لا يترددون في الضغط عليه كي يستجيب إلى طلباتهم. وقد تعدلت هذه الصورة قليلاً بعد ذلك في كتب الأنبياء. ولكن أسفار موسى الخمسة ظلت أكثر أسفار العهد القديم قداسة، وأصبح تاريخها المقدَّس، وما جاء فيها من صُوَر حلولية كمونية عضوية من أهم مفردات الوجدان الغربي. ومع تَصاعُد معدلات العلمنة، أعيد إنتاج هذه الصورة القَبَلية العضوية الحلولية على هيئة الفكر العلماني القومي. وقد أَحَلَّ هذا الفكر، محل الإله الواحد المتجاوز (المُنزَّه عن الطبيعة والتاريخ، مركز الكون، المفارق له) ، كياناً عضوياً متماسكاً هو الشعب أو الأمة التي تحوي مركزها داخلها، فهي موضع الحلول والكمون وفوق الجميع. وأصبحت الأمة، ذلك الكيان العضوي المُنغلق على ذاته، مصدر السلطات وموضع التقديس، وأصبحت الهوية القومية والحفاظ عليها (بغض النظر عن أية قيم) قيمة مطلقة ومرجعية نهائية (تَوثُّن الذات كما سماها أحد المفكرين العرب) . بل وأصبح تراب الوطن أو أرضه موضع التقديس، فهو الرقعة التي تتحقق عليها الذات القومية المقدَّسة. وقد تم التعبير عن هذا من خلال مفهوم الدم والتربة: الدم الذي يجري في عروق أبناء الشعب والتراب أو

<<  <  ج: ص:  >  >>