٤ ـ انطلاقاً من هذا الإيمان بالصيرورة، تذهب ما بعد الحداثة إلى أنه لا توجد نظرية (قصة) كبرى تنبع من إنسانيتنا المشتركة، ولذا لا يبقى سوى قصص صغرى ليس بإمكان البشر جميعاً أن يشاركوا فيها. كما أن الصهيونية هي أيديولوجية القصص الصغرى التي لا تؤمن بقصة إنسانية كبرى، فالصهيوني يؤسس نظريته في الحقوق اليهودية في فلسطين انطلاقاً من «شعوره الأزلي بالنفي وحنينه إلى صهيون» ، أي أنه يدور في نطاق قصته الصغرى. وحيث إن ارتباط العرب بفلسطين ووجودهم فيها يقع خارج نطاق هذه القصة، فلا شرعية لها بل لا وجود.
٥ ـ يُلاحَظ أن كلاًّ من الصهيونية وما بعد الحداثة يتسمان بالثنائيات المتعارضة المتطرفة التي تؤدي إلى العدمية. فما بعد الحداثة تطرح تصوراً للحقيقة باعتبارها حضوراً كاملاً مطلقاً. وحيث إن مثل هذا الحضور مستحيل، فهي تعلن أنه لا توجد حقيقة على الإطلاق. وهذا لا يختلف كثيراً عن طرح الصهاينة لفكرة اليهودي الخالص (المطلقة) كمعيار وحيد للهوية اليهودية. وحيث إن مثل هذا اليهودي غير موجود في عالم المنفى، فإن عالم المنفى والأغيار يُرفَض بأسره حتى يتم تأسيس الدولة اليهودية الخالصة. ثم تزول الثنائية تماماً حين نكتشف أن الدولة اليهودية الخالصة ستُعيد صياغة اليهودي ليصبح مثل الأغيار وتسود الواحدية، أي أنه تم الانتقال من التعارض الكامل إلى التماثل الكامل وإلى الواحدية التي تمحو الثنائية.
[الباب العاشر: اليهودية بين لاهوت موت الإله ولاهوت التحرير]
اليهودية في عصر ما بعد الحداثة
Judaism in the Age of Post- Modernism
بإمكان القارئ أن يعود للباب المعنون «الحلولية والعلمانية» ليجد تعريفنا للحداثة، أي باعتبارها إنكاراً لأي يقين معرفي أو أخلاقي وتعبيراً عن تصاعد معدلات العلمنة بل عن اكتمال المنظومة العلمانية التحديثية التنويرية. و «لاهوت موت الإله» هو لاهوت يهودية عصر ما بعد الحداثة.