إن النزعة الواحدية المادية بدأت تكتسح الجميع، لتسقط كل الحدود بحيث يتحول العالم إلى كيان ذي بُعد واحد يتحرك فيه البشر في إطار حتميات مادية، تعفيهم من مسئولية الاختيار، وحيث الأمل هو أن تقوم الهندسة الوراثية الداروينية بتحسين النسل وأخلاقيات الإنسان من خلال تغيير الجينات والتحكم فيها ومن خلال عمليات الاستنساخ النظيفة المعقمة، وحيث يوجد عالم من شاشات التليفزيون والكومبيوتر تعفي الإنسان من مسئولية الحركة بين الآخرين، فيجلس في منزله ليبيع ويشتري ويعمل ويتسلى ويستمنى دون أن يرى بشراً، تماماً مثل الجنين في رحم أمه أو الطفل في علاقته بثديها. والقضية الآن هي: كيف يمكن أن نستمر في هذا العالم الحديث دون أن نسقط في العالم الجنيني ودون أن ننسى نزعات التجاوز الربانية داخلنا؟ وكيف يمكن أن نؤسس حضارة إنسانية حديثة لا تؤدي بالضرورة إلى تقويض الإنسان؟
[الباب الثامن: العلمانية الشاملة والإمبريالية]
الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية
ثمة رأي يذهب إلى أن التشكيل الإمبريالي الغربي يشكل انحرافاً عن الحضارة الغربية الحديثة وعن رؤيتها للكون، وأن تَبنِّي الحضارة الغربية للحل الإمبريالي (أي تصدير مشاكلها للخارج والهيمنة على شعوب الأرض وعلى مصادرها الطبيعية) هو حالة من غياب الاتساق مع الذات في حضارة ليبرالية إنسانية مستنيرة ارتضت الديموقراطية فلسفة للحكم، وارتضت التنافس الحر نسقاً اقتصادياً، كما تبنت العقلانية والإنسانية فلسفة للكون.
وقد دأبت العلوم الإنسانية الغربية على تَناوُل بعض الظواهر باعتبارها ظواهر مستقلة مع أنها، في واقع الأمر، مترابطة بل تكاد تكون واحدة. فيتم مثلاً الفصل بين الاشتراكية والرأسمالية مع أن كلتيهما مبنية على فكرة ترشيد الاقتصاد وتصفيته من أية مضامين أخلاقية، إنسانية كانت أم دينية، فكل منهما اقتصاد يدور في إطار المرجعية المادية الكامنة (الطبيعة/المادة) وحول السوق/المصنع.