لكن أهم التطورات، في هذه المرحلة، كان انتشار الجماعات اليهودية خارج فلسطين. فهذه الجماعات كانت تشكل في معظم الأحيان جماعة وظيفية. وحتى يَتسنَّى لأعضاء هذه الجماعة الاضطلاع بالوظيفة الموكلة إليها بكفاءة وعلى أحسن وجه، كان لابد لها أن تحتفظ بعزلتها الإثنية والدينية عن مجتمع الأغلبية. وتُعبِّر هذه العزلة عن نفسها في صورة التمسك الشديد بالهوية والاحتفاظ بقدر من الاستقلال عن المحيط الحضاري الذي يعيش فيه أعضاء الجماعات اليهودية، في الرؤية والمأكل والملبس واللغة والعقيدة (مجتمعة أو منفردة) . ولكن يجب أن نشير إلى أن هوية الجماعة الوظيفية تكون عادةً حالة عقلية أكثر من كونها أمراً واقعاً، فأعضاء الجماعة الوظيفية يستبطنون الدور المفروض عليهم ويتوحدون به، ويجدون أن العزلة أمر طبيعي بل ومرغوب فيه، وأن تَحقُّق الذات والهوية لا يمكن أن يتم بدونه. ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعة الوظيفية لا يعيدون صياغة هويتهم من خلال عناصر مُستمَدة من التراث اليهودي أو العقيدة اليهودية وحسب، وإنما من عناصر مُستمَدة (وربما بالدرجة الأولى) من المجتمع المضيف الذي يعيشون في كنفه أو من مجتمع مضيف سابق، أو من خلالهما مجتمعين. ولكن الحالة العقلية الانعزالية تخبئ أحياناً معدلات عالية من الاندماج في المجتمع، فهم يحتفظون بقدر من الاستقلال عن محيطهم الحضاري، ولكنهم يكتسبون سماتهم ورؤيتهم لأنفسهم ولغيرهم من محيطهم الحضاري (شأنهم في هذا شأن أعضاء الجنس البشري كافة) وذلك رغم استقلالهم عن هذا المحيط. فهويتهم (الوظيفية) اليهودية لا تتحدد من خارج التشكيل الحضاري الذي ينتمون إليه أو رغماً عنه، وإنما من خلاله ومن داخله وبسبب تفاعلهم معه. وفي الحقيقة، فإن تَفرُّد الهوية اليهودية في أي مجتمع لا تعود إلى تَفرُّد العناصر التي تُكوِّن الهوية وإنما تعود إلى وجودها مجتمعة. كما أن حركيات المجتمع الذي يعيشون فيه يمكن أن تُفسِّر هذا