للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يمكن تفسير ظاهرة تَحوَّل كثير من الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية بمركب من الأسباب، تاريخي واجتماعي وديني. ويمكننا أن نبدأ بالعودة إلى الدولة العبرانية القديمة، وهي دولة لم تكن تتمتع بمستوى تكنولوجي أو حضاري متقدم، ولهذا كانت غير قادرة على تشغيل كل سكانها. كما أنها كانت دولة ضعيفة غير قادرة على حمايتهم الأمر الذي أسفر عن أسر عشرات وربما مئات الألوف منهم، حيث هُجِّروا إلى بابل وآشور فتحولوا إلى جماعات بشرية غريبة يمكن تجنيدها كمرتزقة أو مستوطنين، كما أنهم تخصصوا هناك في وظائف بعينها دون غيرها. ومما عمَّق هذا الاتجاه، وجود كثير من الجماعات اليهودية في الشرق الأوسط وفي حوض البحر المتوسط، وهي منطقة سيطرت عليها عديد من الإمبراطوريات، الواحدة تلو الأخرى، وكانت القوى الإمبراطورية الصاعدة تتحالف مع أعضاء الجماعات اليهودية نظراً لعدم خشيتها منهم وتجندهم في صفوفها كمرتزقة أو مستوطنين أو حتى جواسيس. وكانت فكرة الوطن الأصلي، مركز اهتمامهم الديني، تساعد على إضعاف علاقتهم بوطنهم الجديد، وعلى عزلتهم عن مجتمعاتهم، وعلى انغلاقهم على أنفسهم. وكان من الممكن أن تختفي هذه الجماعات تماماً بسقوط الهيكل، ولكن الذي حدث أن فكرة الوطن الأصلي (الحنين إلى صهيون) حلت محل الوطن الأصلي ذاته، وهو ما أعطى أعضاء الجماعات اليهودية تَماسُكاً إثنياً - ولكنه تَماسُك وهمي لأنه لم يَعُد هناك مركز قومي فعلي يحدد المعايير الدينية أو القومية. وبينما كانت الهويات اليهودية تتشكل في الواقع من خلال تشكيلات حضارية مختلفة، كان أعضاء الجماعات اليهودية يدورون في إطار فكرة الهوية اليهودية الإثنية الدينية الواحدة. وهذه التركيبة مناسبة إلى أقصى درجة للجماعات الوظيفية، ففكرة الوطن تضمن تماسكهم وعزلتهم وتَجرُّدهم اللازم للاضطلاع بوظائفهم المختلفة، بينما يساعد تكيفهم الفعلي على زيادة كفاءتهم وعلى أن يصبحوا في المجتمع دون أن

<<  <  ج: ص:  >  >>