وعلاقة الجماعات اليهودية بالتحديث والعلمانية علاقة مركبة وعميقة، ذلك أن مسار الهجرة اليهودية قد تأثر بشكل عميق بالتحديث. فالجماعات اليهودية كانت جماعات وظيفية تتحرك أفقياً من مجتمع إلى آخر، لا رأسياً داخل المجتمع الواحد نفسه. فكانوا في البداية يُستجلَبون إلى المجتمعات المتخلفة كعنصر تحديثي أو استيطاني، ومن هنا كانت الهجرة اليهودية تتم دائماً من البلاد الأقل تَخلُّفاً إلى البلاد الأكثر تَخلُّفاً، من البحر الأبيض المتوسط إلى وسط أوربا ومنها إلى شرق أوربا. ولكن ابتداءً من القرن السادس عشر وبداية ظهور الرأسمالية والحركة الاستعمارية الغربية وبدايات التحديث في الغرب، نجد أن الهجرة تأخذ شكلاً مغايراً، فهي تنطلق من البلاد المتخلفة إلى البلاد الأكثر تقدماً. وقد اشترك اليهود في حركات الهجرة الاستيطانية وغير الاستيطانية.
ورغم أن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا من حملة الفكر التحديثي والعلماني، إلا أنهم سقطوا ضحية عمليات التحديث والعلمنة. فهويتهم وإثنيتهم كانت مرتبطة تماماً بعزلتهم كجماعة وظيفية. ولكن، مع تَصاعُد معدلات التحديث، وظهور نُخَب محلية تتولى زمام الأمور، وكذلك ظهور الدولة القومية العلمانية المركزية، لم تَعُد هناك وظيفة لهم، وبدأت التحولات الوظيفية والطبقية العميقة تدخل على الجماعات اليهودية، فتحولوا إلى بروليتاريا وشحاذين وأصحاب مصانع وبورجوازية كبيرة وصغيرة، وفقدوا تماسكهم الإثني وعقيدتهم اليهودية. وتساقطت كل رموز العزلة، وتساقطت أسوار الجيتو، وتم تحديث أزيائهم ولغتهم، وبدأ التعلىم بين أعضاء الجماعات اليهودية يتحول من أداة لنقل الخبرات الخاصة وأسرار المهنة والحفاظ على الهوية والعزلة في المجتمع إلى وسيلة من وسائل تصفية الهوية شبه القومية ودمجهم في المجتمع وتدريبهم على الحراك الاجتماعي داخل طبقات المجتمع.