"وقد فات هؤلاء العلماء ... ، وغيرهم ممن قلدوهم في مسارهم الفكري بدون رويّة واستبصار، أن الظواهر الاجتماعية تختلف تماماً عن الظواهر الطبيعية التي لا عقل ولا إرادة لعناصرها، والتي ينمُّ مظهرها عن مخبرها، لأنها، في رأينا، أحادية النسق، تحكمها كلاًّ أو جزءاً قوانين ونظريات واحدة لا تتبدل. ولذلك نجد أن كلاًّ من الملاحظة الحسية، أي المشاهدة، والملاحظة العقلية، أي التأمل والاستبصار، وجميع خطوات التجريب التي تُجرَى عليها، بوصفها ظواهر طبيعية أحادية النسق، تستوعبها كلها في جميع مظاهرها، لأن ظاهرها لا يختلف عن باطنها في شيء، حتى إنه ليدل عليه دلالة تامة، لما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوي شامل متكامل.
"أما الظواهر الاجتماعية فتختلف عن الظواهر الطبيعية في أنها، بوصفها ظواهر عنصرها الأساسي الإنسان الاجتماعي العاقل ذو الإرادة، الذي يعيش مُعاشراً لغيره من البشر ومرتبطاً بهم بشتى العلاقات الاجتماعية، نقول تختلف في أنها ثنائية النسق. فكما أن للإنسان جوانية وبرانية، فهي بالمثل ذات نسقين، أحدهما جواني أي باطن، والآخر براني أي ظاهر. ومادامت كذلك، فإن البحث فيها ينقسم إلى قسمين: أحدهما يُعنَى بالنسق البراني، أي بما يتبدَّى من الظاهرة الاجتماعية للحواس فتدركه وتتعقله، والآخر يُركِّز على النسق الجواني الخفي منها، الذي يُعدُّ غرفة عمليات للنسق البراني، ليستجلبه ويدركه ويتعقله".