للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا الموقف يستبعد بطبيعة الحال الذات المركبة المُدركة المتفاعلة مع الموضوع التي تصوغ الإشكالية المحددة ويستبعد فكرة أن التساؤلات التي يطرحها باحث ما في العلوم الإنسانية، يحمل أعباءه النفسية والفلسفية الخاصة، لابد أن تكون مختلفة عن تلك التي يثيرها باحث آخر يحمل أعباء نفسية وفلسفية أخرى، وأن اختلاف التساؤلات لابد أن يؤدي إلى اختلاف النتائج. كما يعني هذا الموقف تجاه البحث والتأليف إنكار إمكانية التحولات الفكرية أثناء عملية البحث بسبب تركيبية الإنسان وتركيبية الظاهرة. ولذا انتهى الأمر بأن أصبحت عملية البحث والتأليف في العلوم الإنسانية هي مجرد إجراء تجارب في إطار النظرية والفروض العامة السائدة، وظهر ولع غير طبيعي بالأرقام والإحصاءات والجداول والرسوم البيانية، وأصبح الاستبيان سبيل الوصول إلى الدقة المزعومة والتوصل إلى الحقيقة الواحدة. وفي نهاية الأمر أصبح التأليف، عند الكثيرين، هو التوثيق: توثيق شيء معروف مسبقاً أو تطبيق لنظرية (ثبت صدقها تماماً) على جزئية ما دون أن تثمر عملية التطبيق الجديدة أي تعديل للنظرية أو اكتشاف للمنحى الخاص للظواهر موضع الدراسة، وهو ما أسميه التوثيق الأفقي: أن يأخذ الباحث مقولة معروفة مستقرة ويوثقها من كتب أخرى دون إبداع أو تساؤل، كأن يثبت الباحث بما لا يقبل الشك أن الصهيونية حركة عنصرية، وأن الرومانتيكية عودة للطبيعة والعواطف، وأن مصر هبة النيل، وأن حافظ إبراهيم شاعر الوطنية!

<<  <  ج: ص:  >  >>