لكن العنصر الأساسي الذي ساهم في ترسيخ الصور الإدراكية الكريهة عن اليهود، وفي تصاعد الهجمات ضدهم، هو الظاهرة الإمبريالية. فقد كان القرن التاسع عشر هو عصر التوسع الإمبريالي الغربي الذي انتهى بالهيمنة على كل أنحاء المعمورة ووضع الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية موضع التنفيذ على مستوى العالم. وصاحب هذه العملية ظهور مجموعة من الأفكار والنظريات والصور الإدراكية العرْقية التي تحاول تسويغ سيطرة الإنسان الأبيض على بقية الأعراق. فضلاً عن أن الفلسفة النيتشوية كانت تكتسح أوربا، وهي فلسفة تنظر إلى الواقع باعتباره صراعاً لا يهدأ، صراع الجميع ضد الجميع، ويستند فيه البقاء لا إلى الحق والخير والجمال وإنما إلى الحركية والقوة والإرادة. كما سادت أوربا آنذاك الفلسفة الداروينية الاجتماعية، وهي أساساً رؤية للعلاقات الاجتماعية من خلال نموذج ينقل القيم التي زعم داروين أنه اكتشفها في عالم الطبيعة إلى المجتمع الإنساني.
وكانت هذه الداروينية من أهم مصادر الفكر الصهيوني بخاصة، والفكر الإمبريالي بعامة، فكان يتم تبرير إبادة الملايين في أفريقيا واستعبادهم في آسيا على أساس أن هذا جزء من عبء الرجل الأبيض ومهمته الحضارية، فهو يبيد الملايين ليؤسس مجتمعات متقدمة متحضرة! ولكن الرجل الأبيض هو أساساً الرجل الأقوى الذي لا يكترث كثيراً بالخير أو الشر. ولم يكن من الممكن إدراك الواقع بطريقتين مختلفتين: إحداهما ليبرالية خاصة بأوربا، والثانية إمبريالية عنصرية خاصة بالمناطق التي تقع خارجها. فالعنصرية رؤية متكاملة للإله والطبيعة والتاريخ والإنسان. وكان محتماً أن تقع أكبر الأقليات في أوربا، وأكثرها انتشاراً وبروزاً، ضحيةً لهذا التحول الإدراكي والاجتماعي.
تاريخ معاداة اليهود منذ القرن الثامن عشر
History of Anti-Semitism since the Eighteenth Century