ولكن قبل أن نتوجه لقضية النزعة الإبادية في الحضارة الغربية، لابد أن نشير إلى وضع اليهود داخل الحضارة الغربية حتى عصر النهضة. فالمسيحية الغربية لم تُطوِّر مفهوماً واضحاً خاصاً بالأقليات في المجتمع الغربي ولم تُشرِّع لهم ولم تحدد وضعهم القانوني، واكتفت بمفهوم المحبة إطاراً عاماً. وقد صنَّفت الكاثوليكية الغربية اليهود باعتبارهم شعباً شاهداً، يقف في تدنيه وضِعَته «شاهداً» على عظمة الكنيسة وانتصارها. ولم يكن الأمر مختلفاً كثيراً على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، حيث تحوَّل اليهود إلى جماعة وظيفية، وهي جماعة تُعرَّف في ضوء وظيفتها وفائدتها ونفعها (فهي مادة استعمالية) لا قداسة لها. وهذه الرؤية تعني «حوسلة» اليهود، ولكنها في الوقت نفسه تعني ضرورة الحفاظ عليهم وحمايتهم من الهجمات الشعبية. فالكنيسة الكاثوليكية كانت تحتاج إلى هذا الشاهد الأزلي على عظمتها. كما أن الطبقات الحاكمة (النبلاء الإقطاعيون والملوك) كانت في حاجة إلى اليهود كأداة طيعة من أدوات الاستغلال وامتصاص فائض القيمة من الجماهير (كان يُطلَق على اليهود كلمة «الإسفنجة» ، لأنهم يمتصون فائض القيمة من الجماهير ثم يقوم الحاكم الإقطاعي باعتصار ما جمعوه من ثروة من خلال الضرائب) . ولذا، وعلى عكس ما يتصور البعض، كان العداء لليهود حركة شعبية موجهة ضد الطبقات الحاكمة وضد الكنيسة مُمثَّلين في الرمز المحسوس المباشر اليهود، وكانت الكنيسة الكاثوليكية ومعها النبلاء هم حماة اليهود.