للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولنضرب مثلاً مثيراً من واقع أعضاء الجماعات اليهودية يبرهن على انعدام جدوى عملية الرصد الموضوعي (المتلقي) مهما بلغ من دقة وأمانة ونزاهة. ولنتخيل باحثاً (سنشير إليه بعبارة «الباحث الافتراضي» ) قرر أن يتخذ موقفاً موضوعياً تماماً من هجرة أعضاء الجماعات اليهودية وأن يرصدها بأمانة. سيبدأ هذا الباحث الافتراضي بعمل جدول يدرج فيه أسماء الجماعات اليهودية في العالم، وبجانب كل جماعة سيدرج الأرقام الخاصة بعدد اليهود الذين هاجروا منها ثم قد يضيف جدولاً آخر بأسماء البلاد التي هاجروا إليها. وقد يقرر أن يعمل جدولاً تاريخياً يضم أسماء الجماعات اليهودية وأسماء البلاد التي هاجروا إليها وتواريخ الهجرة والنسب المئوية المختلفة. وستكون النهاية أو الثمرة جدولاً ضخماً أو عدة جداول ضخمة أو متوسطة الحجم. ولا شك في أن مثل هذه الجداول، باختلاف أحجامها وأشكالها مرحلة أساسية في عملية الرصد. ولكن أن نكتفي بهذه الخطوة، فهذا هو التلقي السلبي بعينه، فالجدول قد يحتوي على كل شيء ولكنه لا يقول شيئاً، إذ يجب أن يُنظَر له باعتباره مادة خام، مجرد حقائق، يتعامل معها العقل لا كنهاية في حد ذاتها وإنما كي يفسرها ويجردها ويستخرج الأنماط منها حتى نصل إلى الحقيقة، ولكن لا يمكن أن نتصور أن المادة الخام هي النمط وأن الحقائق هي الحقيقة. ولكن صاحبنا، الباحث الموضوعي الافتراضي الذي أشرنا إليه، يكتفي بالرصد ولا يُعمل عقله ولا يجتهد ولا يسأل ولا يطرح الإشكاليات ولا يربط ولا يجرد ولا يبقي ولا يستبعد، ولعله لو فعل لاكتشف أن هجرة اليهود في العالم القديم لم تكن مجرد أرقام متراكمة بلا شكل أو اتجاه وإنما جزءاً من نمط، فقد كانت في معظم الأحيان هجرة من المناطق المتقدمة إلى المناطق المتخلفة، ولاكتشف أن هذا النمط انعكس مع بداية القرن السادس عشر. ولاكتشف أيضاً أن أعضاء الجماعات اليهودية لا يهاجرون والسلام وإنما يتحركون عادةً داخل حدود

<<  <  ج: ص:  >  >>