وساهمت كل هذه العناصر ولا شك في خلق الاستعداد الكامن والتربة الخصبة والتبادل الاختياري (بالإنجليزية: اليكتيف أفينيتي elective affinity في مصطلح ماكس فيبر) بين الحضارة الغربية وعملية إبادة اليهود. ولكن العنصر الحاسم ـ في تصورنا ـ في ظهور النزعة الإبادية (ضد اليهود وغيرهم من الأقليات والجماعات والشعوب) هو الرؤية الغربية الحديثة للكون. وهي رؤية يمكن وصفها بإيجاز شديد بأنها رؤية مادية واحدية (حلولية كمونية) تعود جذورها إلى عصر النهضة في الغرب. وقد اتسع نطاقها وازدادت هيمنتها إلى أن أصبحت هي النموذج التفسيري الحاكم مع منتصف القرن التاسع عشر، عصر الإمبريالية والداروينية والعنصرية. وقد بدأت هذه الرؤية بمرحلة إنسانية هيومانية وضعت الإنسان في مركز الكون وتبنت منظومات أخلاقية مطلقة، تنبع من الإيمان بالإنسان باعتباره كائناً مختلفاً عن الطبيعة/المادة، سابقاً عليها، له معياريته ومرجعيته وغائيته الإنسانية المستقلة عنها (وهذا شكل من أشكال العلمانية الجزئية) . ولكن هذه الرؤية الإنسانية المادية تطورت من خلال منطق النسق المادي الذي يساوي بين الإنسان والطبيعة ومن خلال تَصاعُد معدلات الحلولية والعلمنة وانفصال كثير من مجالات النشاط الإنساني (الاقتصاد ـ السياسة ـ الفلسفة ـ العلم) عن المعيارية والمرجعية والغائية الإنسانية إلى أن فقد الإنسان مركزيته ومطلقيته وأسبقيته على الطبيعة/المادة وتحوَّل إلى جزء لا يتجزأ منها وأصبح هو الآخر مادة، منفصلة عن المرجعية والغائية والمعيارية الإنسانية (وهذه هي العلمانية الشاملة) .