وعملية الإبقاء والاستبعاد هذه لا تتم بشكل عشوائي (ذاتي) محض، ولا تتم بشكل آلي (موضوعي) محض، وإنما على أساس مجموعة من المسلمات الكلية النهائية التي استبطنها المُدرك (وهي مفطورة في عقل الإنسان) . وهذه العملية ليست عملية محايدة، مفرغة تماماً من القيم (بالإنجليزية: فاليو فري value-free) وإنما تدور في إطار المنظومة القيمية للمدرك. ومما يزيد عملية الإدراك تركيباً أن عقل الإنسان لا ينظم المعطيات الحسية ويفككها ويركبها وحسب، بل يختزن ذكريات عن الواقع هي في حقيقة الأمر صورة مثالية وذاتية لهذا الواقع، وهو يُولِّد من المعطيات الحسية رموزاً وأساطير، وتصبح الذكريات والمثل والرموز والأساطير جزءاً من آليات إدراكه. كما أن وضع المُدرك في الزمان والمكان يؤثر ولا شك في علاقته بالظاهرة التي يدرسها.
وعملية رصد الإنسان عملية تبلغ الغاية في التركيب. فالحقائق الإنسانية لا يمكن فهمها إلا من خلال دراسة دوافع الفاعل وعالمه الداخلي والمعنى الذي يُسقطه عليه، فالإنسان ليس مجرد سلوك براني مادي وحسب يُرصَد من خارجه وإنما هو سلوك براني تُحركه دوافع جوانية يَصعُب الوصول إليها مباشرةً من خلال الوصف الموضوعي وغيره، ولذا يحاول العقل البشري أن يصل إليها من خلال عملية حدس وتخمين وتعاطف وتخيُّل وتركيب عقلي ومقاربات ذهنية يَصعُب أن نسميها «موضوعية» . وقد قيل إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستجيب للمنبهات وإنما لفهمه لها ولدلالتها وللمعنى الذي يُسقطه هو عليها. والبُعد الجواني في الظاهرة الإنسانية يفوق في أهميته السلوك البراني الخاضع للرصد المادي، فكأن الموضوعية عاجزة عن رصد الإنسان باعتباره كائناً مركباً، وتنجح فقط في تحويله إلى كائن طبيعي، وهو ما يُبيِّن أنها تدور في إطار المرجعية الواحدية المادية الكامنة.