٤ ـ كانت آليات السخرة والإبادة كلها تتسم بتعظيم الإنتاج والمنفعة. ومن أطرف الآليات وأجداها اقتصادياً وأقلها إيلاماً وأكثرها شيوعاً إرسال اليهود إلى معسكرات العمل بالسخرة لتزويد الشركات الألمانية بالعمالة الرخيصة، وهو ما أفاد الاقتصاد الوطني الألماني فحقق تقدماً هائلاً لا يمكن للمراقب الموضوعي المحايد المتجرد من كل التحيزات الغائية والأخلاقية إلا أن يقر به. فكان يتم فرز المساجين بعناية شديدة، حيث يُوجَّه القادرون على العمل إلى أعمال السخرة، ومن ثم لا يُبدَّد شيء. وكان المعتقلون يعملون لساعات طويلة، ويعيشون دون حد الكفاف الأمر الذي جعل من الممكن تحقيق أرباح هائلة وإنتاجية منقطعة النظير.
٥ ـ يبدو أن النازيين استفادوا بواحدة من أهم التجارب الحضارية الغربية، وهي التجربة الإمبريالية، إذ أُرسل اليهود أحياناً إلى جيتوات، أسسها النازيون خصيصاً، وكانت تأخذ شكل مناطق "قومية" مستقلة لها مجالسها التي تحكمها ونظامها المصرفي المستقل وعملتها الخاصة ونظامها التعليمي الخاص، أي أن كلاً منها كانت جيتو/دولة أو دولة/جيتو تدخل في علاقة تبادل كولونيالية مع الدولة النازية. فكانت الجيتوات تزود الدولة النازية بالعمالة والخدمات وبعض السلع نظير أن تزودها الدولة النازية بالغذاء والملابس. ولكن علاقة التبادل كانت غير متكافئة لصالح الدولة النازية بحيث تكون الخدمات والعمالة الخارجة من الجيتو أكبر من قيمة ما يحصل عليه سكان الجيتو من المواد الغذائية التي كانت دائماً أقل من أن تفي باحتياجات العاملين اليهود، أي أن العلاقة كانت تؤدي إلى انتقال فائض القيمة إلى النازيين وإلى إبادة العاملين واستهلاكهم كأداة إنتاج سريعة. ولذا يمكن القول بأن العلاقة بين الجيتو والدولة النازية كانت علاقة كولونيالية لا تختلف كثيراً عن علاقة إنجلترا بمستعمراتها أو علاقة الولايات المتحدة ببعض الدول العربية وغير العربية التي تسيطر عليها.