وبعد تناقص دور اليهود كجماعة وظيفية وسيطة تتشكَّل من تجار صغار ومرابين، بدأت الحضارة الغربية تحوِّلهم مرة أخرى إلى جماعة وظيفية وسيطة أخرى تضطلع بالدور التجاري نفسه ولكن بما يُعبِّر عن التغيرات التي خاضها المجتمع الغربي. فبعد أن كان أعضاء الجماعة اليهودية هم الإسفنجة أو الأداة التي يمتص بها الحاكم الإقطاعي فائض القيمة من داخل مجتمعه، تحولوا إلى أداة يستخدمها حاكم الدولة المطلقة في النشاطات التي تقوم بها هذه الدولة داخل وخارج حدودها، إذ لم تعُد هناك ضرورة لامتصاص فائض القيمة لأن مؤسسات الدولة كانت تقوم بذلك على وجه أفضل. ومع هذا، استمر بعض أعضاء الجماعة اليهودية في لعب دور الجماعة الوسيطة القديمة أي التجارة البدائية والربا، وهؤلاء هم اليهود الذين كانوا يوجدون في قاعدة الهرم. والواقع أن معظم، إن لم يكن كل، أعضاء الجماعات اليهودية (في قمة الهرم وقاعدته) كانوا يضطلعون بأشكال مختلفة من الوساطة.
وقد كوَّنت الجماعات اليهودية في هذه المرحلة شبكة علاقات تجارية على مستويين: عالمي متقدم، ومحلي بدائي. فكان كبار المموِّلين اليهود، من يهود البلاط وغيرهم، يربطون بين الدول المختلفة ويسدُّون احتياجات الأمراء للأموال وحاجات الجيوش إلى التموين. فكان يهود الأرندا في بولندا يزوّدون يهود البلاط في وسط أوربا بالأخشاب والمحاصيل الزراعية التي كان يحتاج إليها غرب أوربا ووسطها بسبب زيادة عدد السكان آنذاك. وكان بوسع يهود أمستردام تدبير المعادن النفيسة التي قد يحتاج إليها نبلاء شرق أوربا أو وسطها. كما كانت تساندهم القاعدة الكبيرة من كبار تجار الجملة، والسماسرة والوكلاء التجاريين الذين كان يساندهم آلاف الباعة الجائلين وصغار تجار العملة والحرفيون اليهود الذين كانوا يعملون في العادة بالقرب من الوسيط اليهودي فيقومون بتقطيع الماس والصياغة والنسيج وخياطة الملابس وإصلاحها.