للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد واكب ذلك ظهور الأخلاقيات المزدوجة التي تعني وجود مقياس للحكم على الشعب مختلف عن ذاك الذي يُستخدَم للحكم على الشعوب الأخرى. ثم قام عزرا ونحميا بتشديد قبضة الشعائر على اليهود وقويا دعائم الجيتو الداخلي، وبذا بدأ الشعب اليهودي في عزل نفسه طواعية عن بقية الشعوب. وهذه الأفكار (خصوصية يهوه ـ الشعب المختار ـ الأخلاقيات المزدوجة ـ العزلة الشعائرية) تتنافى مع عملية الترشيد، تلك العملية التي قام بها، وبشكل كامل، المسيحيون البروتستانت وليس اليهود. ولكن فيبر يذهب، مع هذا، إلى أن اليهودية ساهمت بشكل أكيد في توليد عملية الترشيد، وأن المسيحية الغربية ورثت هذه العناصر الرشيدة والترشيدية من العقيدة اليهودية، ثم قامت بتطويرها ووصلت بهذا التطوير إلى منتهاه: العلمنة الكاملة للمجتمع.

ويتفق بيتر برجر مع ماكس فيبر في أن اليهودية لعبت دوراً في عملية الترشيد، ولكنه ينسب لها أهمية أكبر من تلك التي ينسبها لها فيبر. ولتوضيح هذه النقطة يُعرِّف برجر العلمنة بأنها «استقلال مجالات مختلفة من النشاط الإنساني عن سيادة المؤسسات الدينية ورموزها» ، أي انحسار القداسة عن الدنيا بشكل تدريجي نتيجة لتزايد ترشيد العالم. ويشير برجر إلى أن ثمة واحدية كونية (بالإنجليزية: كوزميك مونيزم cosmic monism) تسم العبادات المصرية والشرقية القديمة التي تنطلق من الإيمان بأنه لا يوجد فارق كبير بين عالم الطبيعة والإنسان من جهة وعالم الآلهة من جهة أخرى، إذ يحل الإله في الإنسان والطبيعة ويوحِّد بينهما (المرجعية الكمونية) . ويرى برجر أن اليهودية تختلف عن الرؤى الكونية الوثنية (التي تتسم بالحلولية الكمونية) والتي سادت الحضارات المجاورة، وأن نقط الاختلاف هي نفسها التي جعلت اليهودية تلعب دوراً مهماً في ترشيد الواقع ومن ثم في ظهور العلمانية:

١ ـ الإيمان بإله مفارق:

<<  <  ج: ص:  >  >>