أ) يُلاحَظ أن الهجرة من شرق أوربا في منتصف القرن التاسع عشر حتى عام ١٨٨٠، والتي كانت هجرة داخلية أي من بلد أوربي إلى آخر، كانت تقذف بأعداد كبيرة من يهود اليديشية المتخلفين، المتمايزين حضارياً وطبقياً، إلى ألمانيا والنمسا. وحينما ضم هذان البلدان أجزاء من بولندا، ضما معها أعداداً كبيرة من يهود اليديشية، الذين هاجرت أعداد منهم إلى المدن الألمانية والنمساوية وبدأوا يصبغون الجماعات اليهودية فيها بصبغة يهودية فاقعة. وكان هؤلاء المهاجرون يُشكِّلون التربة الخصبة للأفكار الصهيونية، كما كانوا يفرضون على يهود هذه البلاد تبنِّي الصهيونية التوطينية حلاًّ لمشاكل اللاجئين. ولا يمكن فهم دعوة هرتزل للصهيونية، وهو اليهودي المندمج بل المنصهر، إلا بإدراك أنه كان مهدداً بفقدان موقعه الطبقي ومكانته الاجتماعية وانتمائه الحضاري بسبب وفود الآلاف من يهود اليديشية. وقد كان عدد أعضاء الجماعة اليهودية في فيينا لا يزيد عن بضع مئات في أواخر القرن الثامن عشر، ثم قفز عددهم إلى نحو ١٧٦ ألفاً مع بداية القرن العشرين.
ب) ورغم أن يهود ألمانيا والنمسا كانوا مندمجين في محيطهم الثقافي، فإنهم كانوا يتميَّزون طبقياً ووظيفياً. فعدد كبير منهم، وبخاصة في ألمانيا، كان من العاملين بالتجارة وشئون المال وبنسبة تفوق نسبتهم إلى عدد السكان. وبعد تَصاعُد عملية التحديث في ألمانيا، وبخاصة بعد حرب عام ١٨٧٠ وضم الألزاس واللورين. ومع بدايات المشروع الاستعماري الألماني، ازداد المموِّلون من أعضاء الجماعة اليهودية نشاطاً، وازداد وجودهم وضوحاً حتى ارتبط اليهود في الوجدان الشعبي بالمشروع الحر والاستغلال الرأسمالي والمضاربات، هذا على الرغم من وجود أعداد كبيرة من اليهود المتسولين والفقراء.