ويمكن هنا أن نثير قضية النوايا المعلنة الحقيقية، وطبيعة علاقة النموذج بالنوايا. فإن كان هناك فيلسوف يدافع عن فلسفة وحشية، فهو لابد يظن (عن نية صادقة) أن مثل هذه الفلسفة ليست وحشية، بل يرى أنها ستأتي بالخير للبشر. ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الأيديولوجيات السياسية. ففي حالة الصهيونية، على سبيل المثال، هناك كثير من الصهاينة كانوا "صادقي النية" بالفعل في رغبتهم ألا يلحقوا الأذى بالعرب. وفي التحليل النماذجي يمكن لنا أن نقول إن النوايا (ودوافع الفاعل بشكل عام) هي مجرد عنصر من بين عناصر كثيرة تشكل الواقع أو النموذج ويمكن إخضاعها لنفس العملية التحليلية، أي التحليل من الداخل (منطق النموذج) ومن الخارج (تجلياته في البنية) . وفي حالة الصهيونية، على سبيل المثال، أخبر هرتزل صديقه عالم الاجتماع الدارويني جومبلوفيتش أنه ينوي إقامة الدولة الصهيونية بالطرق الليبرالية، أي أنه عبَّر عن نيته الالتزام بالنموذج الليبرالي. فكتب له هذا الأخير قائلاً:"أتظن أن بإمكانك أن تقيم مثل هذه الدولة بدون خديعة وإرهاب؟ ". وما فعله جومبلوفيتش هو أنه درس المنطق الصهيوني الداخلي ودرس التجارب المماثلة وتَوصَّل إلى أن هرتزل ساذج وأن نواياه الطيبة ودوافعه الليبرالية لا علاقة لها بالنموذج أو الظاهرة التي ستتحقق والتي تحققت في نهاية الأمر بكل ما صاحبها من طرد وبطش وتهجير وإبادة. وقد علق أحد المؤرخين الإسرائيليين على نوايا هرتزل الطيبة بقوله:"إنه يود أن يطبخ أومليت دون أن يكسر البيض"، فنموذج الأومليت وتَحقُّقه يتطلب ويحتم بنية كسر البيض! وفي هذه الموسوعة، حاولنا تَجاوُز الادعاءات والأقوال الصهيونية لنصل إلى البنية الكامنة التي تشكَّلت في الواقع. ونحن نميل إلى التفرقة بين النوايا والديباجات من جهة، والبنية من جهة أخرى.