وهذه أسئلة مجردة عميقة ولكن حياة الإنسان هي محاولة للإجابة عنها. وحتى محاولة التهرب منها ورفضها يُشكِّل إجابة. ولذا، فهي تتجلى في فكره الواعي وغير الواعي وفي أعماله ذات الدلالة العميقة وفي أفعاله التي تبدو تافهة وغير ذات دلالة على الإطلاق.
والمستوى السياسي في التحليل يتوجه لأسئلة سياسية، كما أن المستوى الاقتصادي يتوجه لأسئلة اقتصادية ويحاول أن يجيب عنها بطريقة سياسية واقتصادية "محايدة" لا تصل إلى الأسئلة الكلية النهائية. فمثلاً يمكن لأحد علماء السياسة أن يقول "الأزمة السياسية لهذا المجتمع هي في جوهرها أزمة اقتصادية ويمكن حلها عن طريق رفع مستوى المعيشة والتنمية السريعة"، فهو يرى أن الأزمة السياسية تضرب بجذورها في الوجود الاقتصادي للإنسان ويتأتى حلها عن طريق آليات اقتصادية. وقد يتصور هذا العالِم السياسي أنه لم يتوجه لأية أسئلة كلية أو نهائية مثل تكوين الإنسان والهدف من وجوده ومعياريته. ولكن التحليل المعرفي المتعمق يمكنه أن يكشف أن اجابته تفترض إجابة اقتصادية (مادية) عن هذه الأسئلة الكلية والنهائية، فالإنسان هو جسد ومادة وحسب، احتياجاته ودوافعه ومعياريته اقتصادية، ومن ثم فإنه حين لا يحقق ذاته اقتصادياً تنشأ الأزمة في المجتمع ويمكن حلها عن طريق إشباع الرغبات والدوافع الاقتصادية. وإن كانت هناك دوافع غير اقتصادية فلا شك في أنها ثانوية وهامشية، ولذا فإن حل أزمة المجتمع لا يتوجه لها، كما أن عملية رصد المجتمع تستبعدها. ومن ثم فإن هناك بُعداً معرفياً كلياً ونهائياً في أي خطاب تحليلي مهما بلغ من الحيادية والتجريدية والسطحية والمباشرة.