للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يمكن القول بأن منطلقات النموذج التفسيري (الاجتهادي) هي عكس منطلقات النموذج الموضوعي المادي (المتلقي) . ولذا قد يصلح النموذج الموضوعي المادي في تفسير بعض جوانب الواقع الطبيعي، ولكنه يخفق تماماً حينما يحاول تطبيقه على ظاهرة الإنسان. إذ يقوم النموذج الموضوعي المادي باستبعاد الإنسان كعنصر فاعل مركب كما يقوم أحياناً بتبسيط الطبيعة نفسها ثم إعطائها الهيمنة على الإنسان، أما النموذج التفسيري فهو ينظر إلى الطبيعة باعتبارها كياناً مركباً تنبض بالحياة وتمور بالأسرار وتتسم باللاتحدد، ولكنها، مع هذا، تتبع سنناً ولها هدف وغاية. وكل شيء في الطبيعة له مكانته ووظيفته وقيمته في ذاته، فالعالم كل متكامل (ومن المنظور التوحيدي، كل شيء في الكون قد ناله نصيب من التكريم لأنه من خلق الله وبديع صنعه) . وهذا يعني أن الإنسان ليس موجوداً في الكون بمفرده، فالكائنات الأخرى لها مكانها، والإنسان لم يُمنَح هذه الأرض ليهزمها ويوظفها ويسخرها لنفعه وحده دون حدود، فلابد له من الحفاظ عليها (لأنه ـ حسب الرؤية التوحيدية ـ قد استخلفه فيها من هو أعظم منه، فكرَّمه ووضع حدوداً عليه) .

إن العالَم المبارك المدهش الذي نعيش فيه عالَم مركب ثري، مليء بالمسافات والثغرات والثنائيات الفضفاضة والأسرار (التي لا يُسبَر لها غور) . هذا العالَم يحوي داخله ما هو معروف ومحسوس وما هو مجهول وغير محسوس، وما هو حلم وما هو غيب (والغيب هنا هو غير المادي الذي لا يُقاس ولا يمكن إدخاله بقضه وقضيضه في شبكة السببية الصلبة) وهو ليس بسطح أملس يمكن رده إلى مبدأ واحد كامن فيه (كما يرى دعاة الكمونية الواحدية المادية من العقلانيين الموضوعيين الماديين) .

<<  <  ج: ص:  >  >>