ولكن هناك من يرى أن العقل ليس صفحة بيضاء، وإنما هو أداة نشيطة مبدعة في أثناء أبسط عمليات الإدراك والتلقي، ولذا فهو قادر على تجاوز الطبيعة/المادة. وهذا النقد يضرب بجذوره في الرؤية المتمركزة حول الذات والإنسان التي تجعل عقل الإنسان هو موضع الكمون ومن ثم تؤكد فعاليته واستقلاليته عن الطبيعة/المادة (وبالتالي حريته ومقدرته على الاختيار) . وأصحاب هذه الرؤية يذهبون إلى أن الحقيقة ليست نتيجة تراكم معطيات حسية على صفحة العقل المادية وعمليات التجريب، فليست كل المعرفة مكتسبة، إذ أن ثمة جزءاً هاماً من المعرفة الإنسانية يُولَد من داخل عقل الإنسان نفسه (ومن هنا تسمية هذا النموذج «النموذج التوليدي» ) ، وهذا الجزء هو الذي يجعل المعرفة الإنسانية إنسانية ومركبة وجوانية ومستعصية للرصد السلوكي البراني من خلال نماذج العلوم الطبيعية والكمية. والأفكار المركبة ليست نتيجة ترابط آلية تتم بشكل تلقائي بين المعطيات المادية وإنما هو نتيجة لجهد إبداعي من جانب البشر. كل هذا يعني، في واقع الأمر، أن القانون الطبيعي/المادي العام يسري على بعض جوانب من الإنسان ولكنه لا يسري عليه في كليته، ولا يمكن تطبيق النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية والنماذج الكمية على الإنسان. ولعدم وجود قانون عام، فالمعرفة لا يمكن أن تتبع خطاً مستقيماً واضحاً وإنما يعني أن كل إنسان يسأل أسئلة مختلفة نابعة من موقفه ولحظته، وهذا يعني أن الخاص لا يذوب تماماً في العام ولا يفقد أهميته أو قيمته، وأن المعرفة لا تؤدي بالضرورة إلى تزايد تحكُّم الإنسان في الطبيعة والإنسان.