للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتبنَّى إسبينوزا هذا المنهج الهندسي التفكيكي لأسباب خارجية تتصل بالعصر، وداخلية تتصل ببنية فكره. فالعصر جعل الرياضة نموذجاً ومثلاً أعلى للمعرفة البشرية في ميادينها كافة، ولذا كان على كل العلوم أن تحذو حذو الرياضة وتنحو منحاها. كما أن اتجاه إسبينوزا الماراني (أن يُظهر غير ما يُبطن، وأن يقول شيئاً ويرمي إلى عكسه) جعله يتبنى الخطاب الهندسي بحيث يتحدث عن الإله (ب) طيلة بحثه ولكن بعد أن أكد في البداية أن الطبيعة (أ) تعادل (ب) ، وعلى القارئ أن يفك الشفرة ببساطة شديدة بأن يحل (أ) محل (ب) . ولكن، مع هذا، يوجد داخل المنظومة الإسبينوزية ما يجعل من اختيار المنهج الهندسي أمراً شبه حتمي، فهي منظومة خالية من الثغرات، مقدماتها مرتبطة بنتائجها ارتباطاً كاملاً. وهي منظومة استبعدت الغائية والانفعالات، بل استبعدت الإنسان كعنصر حر وركزت على القوانين الثابتة المجردة. فالمنهج الهندسي، في هذا الإطار، يصبح أفضل طريقة للوصول إلى الفهم والوضوح وأعلى درجات التجريد والسببية واليقين. واستخدام اللغة الهندسية يعني تجنب الأسلوب البلاغي والإطناب واستبعاد العواطف والانفعالات الإنسانية ذاتها، وكل التشبيهات والصور المجازية التي تسترجع الإنسان. ويمكننا أن نقول أيضاً إن مفهوم وحدة العلوم الذي يبشر به إسبينوزا، إذا دُفع إلى نهايته المنطقية (ويتميَّز إسبينوزا باستعداده الكامل للقيام بهذه الخطوة) ، فإنه يصل إلى عالم الهندسة والجبر، فإن المنهج الهندسي هو أصلح المناهج لفلسفة تساوي بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والأشياء بحيث يتحول الكون بأسره إلى نقط وخطوط ومسطحات وأرقام، فهي فلسفة التمركز حول الموضوع بالدرجة الأولى.

ثالثاً: الرؤية المعرفية:

<<  <  ج: ص:  >  >>