للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وانطلاقاً من واحديته المادية الصارمة (التي تجعل هدف المعرفة فهم قوانين العالم الثابتة وتجعل الحرية إدراك الحتمية واستحالة الحرية) ، يصنف إسبينوزا الرؤية الدينية باعتبارها ظاهرة بشرية ذات هدف عملي جزئي تحاول تحقيق أمانيَّ معينة للإنسان وتجنبه مخاوف خاصة، وهي تفعل هذا بهدف تنظيم أحوال البشر ومعاملاتهم، أي أن الرؤية الدينية لا علاقة لها بالرؤية الكونية الموضوعية التي يبشر بها إسبينوزا، والتي ترى الإنسان باعتباره شيئاً ضمن الأشياء وجزءاً لا يتجزأ من النظام الطبيعي الضروري والكلي للأشياء، وهو نظام كوني ليس فوق الطبيعة وحسب ولكنه فوق الإنسان أيضاً، ولذا فهو لا يمنح الإنسان أو أي كائن جزئي آخر أية أهمية خاصة، فهو نظام يدور حول المادة وليس كالدين الذي يدور حول الإنسان. ولنلاحظ هنا أن إسبينوزا يرى أن الدين يمنح الإنسان مركزية في الكون (لا يستحقها) على عكس الرؤية الكونية الموضوعية العلمية (العلمانية) التي تنزع عن الإنسان ـ في تصوُّر إسبينوزا ـ هذه المركزية وتجعله كائناً ضمن كائنات أخرى أو شيئاً ضمن أشياء أخرى. والمفارقة هنا أن إسبينوزا ينسب للرؤية الدينية ما ينسبه أصحاب الرؤية الإنسانية الهيومانية لرؤيتهم للكون، فهم يزعمون أن رؤيتهم رؤية مادية وضعت الإنسان في مركز الكون. ولكننا نرى أن موقف إسبينوزا أقرب إلى الدقة وأنه استطاع بثاقب نظره وبصيرته أن يستشرف المستقبل ويرى الحلقات الأخيرة في المنظومة العلمانية (والاستنارة المظلمة) . فالمنظومة العلمانية بدأت بالزعم الهيوماني العلماني أن الإنسان يقف في مركز الكون، لكن الأمر انتهى بها في العصر الحديث إلى الموقف المعادي للإنسان الذي ينكر عليه أية مركزية أو حرية أو استقلالية ويجعل المادة أو النظام الكلي للأشياء مركزاً للكون، ويجعل الكون ذاته كوناً أحادياً لا غاية فيه ولا اتجاه ولا مركز، كوناً خالياً من الثنائيات، معقماً من المطلقات، متجرداً من

<<  <  ج: ص:  >  >>