ويبدو أن فرويد أدرك أن الإفصاح عن اللبيدو دون حدود أو سدود أو قيود يعني تَقبُّل الرؤية الحلولية المادية والوثنية القَبلية، وأن رفضها وتأكيد التجاوز هو قبول للرؤية التوحيدية. فالإنسان يصبح سوياً (يصبح إنساناً) حين ينجح في التحكم في الحصان الجامح وفي إعلاء مشاعره وتجاوزها ونقلها من الأم ومن الجنس نفسه إلى الجنس الآخر، داخل حدود اجتماعية (أي أنه يتجاوز المرحلة الرَحمية في مصطلحنا) . ومع هذا كان فرويد يرى أن عملية القمع هذه محكوم عليها بالفشل بالنسبة للأغلبية الساحقة، رغم أنها عملية جوهرية لتأسيس الحضارة.
ثمة إبهام مأساوي هنا بين إعجابه بالتوحيد والتجاوز والحضارة (ولنسمها «النزعة الربانية» ) ، يواكبه إحساس عميق بفشل المحاولة وحتمية السقوط في الحلولية والنزعة الرَحمية. وقد عبَّر هذا الإبهام عن نفسه بشكل مثير واضح في آخر كتب فرويد موسى والتوحيد. فموسى هو الذي أتى بالشريعة والحدود وهو الذي علَّم اليهود عقيدة التوحيد (والإعلاء والتجاوز) فتحولوا من برابرة أجلاف (شعب اللبيدو) إلى شعب موحِّد، مختار من الإله. ولكن هل يخضع اللبيدو للكبت وقيود الحضارة والضمير (هل ينتصر التوحيد على الحلول؟) إجابة فرويد ـ كما أسلفنا ـ إجابة سلبية، ولكنه لم يكن بوسعه أن يقبلها بسبب عدميتها وسذاجتها. ولذا يحل فرويد هذه الإشكالية بأن يجعل عقيدة التوحيد عقيدة مصرية، ويجعل موسى نفسه مصرياً، ويجعل أصله اليهودي أصلاً مُتخيَّلاً.