ولكن الثنائية الصلبة عادةً ما تُمحى لصالح الموضوع والكون فيهيمن الموضوع وتظهر الواحدية الموضوعية المادية التي تنكر الثنائية والتجاوز. ثم يتسع نطاق دائرة الحلول والكمون ليشمل الكون بأسره وتصبح كل الأشياء موضع الحلول ومن ثم تتعدد المراكز ويصبح العالم لا مركز له. وهذه هي الحلولية الكمونية الشاملة السائلة، إذ يتجلَّى المركز من خلال كل الكائنات فيذوب فيها ويختفي وتفقد كل الكائنات حدودها وحيزها، إذ تختفي المساحات بينها ومن ثم هويتها وتَعيُّنها وقيمتها وتذوب في القوة الواحدة التي تسري في الكون وتتخلل ثناياه (القوة الدافعة للمادة، الكامنة فيها) وتعود الأشياء إلى حالة جنينية رحميّة محيطية (تشبه الفطيرة) تُسقط أية ثنائية أو تعددية ولا تعرف تمييزاً بين ما هو أعلى (في قمة الهرم) وما هو أدنى (في قاعدته) ، وما هو هامشي وما هو مركزي، وما هو خير وما هو شر؛ نظام دائري مصمت لا تتخلله ثغرات أو مسافات، تشبه نهايته بدايته، وتشبه قمته قاعدته، وتشبه أسبابه نتائجه، وتشبه هوامشه مركزه، ومن ثم تنشأ إشكاليات في النظام المعرفي والأخلاقي، إذ تفقد الأشياء حدودها وهويتها ويَصعُب التمييز بينهما، كما تَصعُب التفرقة بين الخير والشر، وتختفي الإرادة والمقدرة على التجاوز وتسود الواحدية والحتمية.