وحينما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم)"أنتم أعلم بأمور دنياكم"، فهو في واقع الأمر يقرر مثل هذا التمايز المؤسسي (فالقطاع الزراعي، حيث يمكن أن يؤبر المرء أو لا يؤبر حسب مقدار معرفته العلمية الدنيوية وحسب ما يمليه عليه عقله وتقديره للملابسات، متحرر في بعض جوانبه من المطلقات الأخلاقية والدينية) . بل إن الجهاد نفسه ينطوي على مثل هذه الجوانب. قال ابن إسحق:"فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبادره إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به". قال ابن إسحق:"فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن منذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل.. أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يارسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر ماءه من القُلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون". فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "لقد أشرت بالرأي".
وثمة تمييز هنا بين الوحي (الذي لا يمكن الحوار بشأنه) وبين الحرب والخديعة (أي آليات إدارة المعركة العسكرية التي تخضع لإدراك ملابسات اللحظة) ، أي أن ثمة تمايزاً بين المؤسسة الدينية والمؤسسة العسكرية (ومما له أعمق الدلالة أن المسلمين كسبوا هذه المعركة) . ومع تَزايُد تركيبية الدولة الإسلامية (مع الفتوحات والمواجهات) ، تزايد التمايز بين المؤسسات وتَزايَد الفصل بينها. وغني عن القول أن الكهنوت (من منظور النموذج الإسلامي) لا يمكنه أن يلعب دوراً أساسياً، فعملية التفسير هي عملية اجتهادية وباب الاجتهاد مفتوح أمام الجميع ولا عصمة لبشر.