ومن ثم أصبحت المقدرة التفسيرية والتصنيفية لنموذج العلمانية الجزئية ضعيفة إلى أبعد حد وأصبح مصطلح علمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة دالاً يقصر عن الإحاطة بمدلوله أي ظاهرة العلمانية في شمولها وتركيبيتها. ومع هذا تم الاحتفاظ به واستمر شيوعه حتى بعد ظهور بعض التعريفات الأخرى الأكثر شمولاً. ولذا اكتسب مصطلح (العلمانية) خاصية جيولوجية تراكمية فحين يظهر تعريف جديد يُضاف إلى التعريفات السابقة ويستمر إلى جوارها دون أن يحاول أحد صياغة كل التعريفات في نموذج واحد شامل ومركب له مقدرة تفسيرية عالية. وقد أدَّى هذا إلى أن الحوار بشأن العلمانية أصبح مُشوَشاً بل مستحيلاً إذ يستخدم المتحاورون نفس المصطلح (علمانية) ولكن كل واحد منهم يُسقط عليه معنى مختلفاً ويراه في إطار مرجعية مختلفة.
إشكالية تعريف العلمانية باعتبارها مجموعة أفكار وممارسات ومخططات واضحة محددة
يتصوَّر البعض أن عمليات العلمنة عمليات اجتماعية وسياسية وفكرية، وأنها تتم من خلال مخطط ثقافي مسبق ومن خلال آليات وممارسات واضحة (مثل نقل الأفكار وإشاعة الإباحية والذهاب إلى الشواطئ العرايا) يمكن تحديدها ببساطة ويمكن تبنيها أو رفضها بشكل واع.،مثل هؤلاء عادةً ما يتصورون أن التدين هو الآخر مجموعة من الممارسات البسيطة الواضحة (مثل الذهاب إلى المسجد والصوم) . وبالتالي فإن إشاعة العلمنة يعني (من هذا المنظور) إصدار تشريعات سياسية معينة والحض على أفكار بعينها، وهكذا. وللتحقق من معدلات العلمنة (والتدين) في مجتمع ما، فإن الباحث الذي يؤمن بمثل هذه الرؤية يتناول عمليات العلمنة الواضحة وآلياتها المباشرة ويبحث عن المؤشرات المحسوسة الظاهرة، فإن وجدها صنَّف المجتمع باعتباره مجتمعاً علمانياً وإن لم يجدها فهو مجتمع إيماني.