لكل هذا، نجد أن الجيتو لم يكن قيداً يُفرَض على اليهود وإنما كان حقاً يسعون إليه ويشترونه. وكان عليهم في بعض الأحيان شراؤه مرة في العام بل أحياناً مرة كل ثلاثة أشهر. ففي عام ١٠٨٤، قام الأسقف هاوتسمان، أمير مدينة سبير، بكتابة وثيقة جاء فيها أنه أراد أن يزيد عزة مدينته ومجدها فأحضر اليهود فيها وأسكنهم خارج المناطق التي يسكن فيها بقية المواطنين وأحاطهم بأسوار عالية حتى لا يضايقهم الآخرون. وحينما استعاد المسيحيون الأندلس، طالب اليهود بهذا الحق. ومن مآثر جيمس الأول، ملك أراجون، أنه منح اليهود عام ١٢٣٩ الحق في أن يعيشوا في حي خاص بهم. وقد كان اليهود يعترفون بالجوانب الإيجابية للجيتو حتى أن الصلوات كانت تُقام كل عام في جيتو فيرونا احتفالاً بالذكرى السنوية لإنشائه.
والواقع أن إنشاء الجيتو، برغم أهميته القصوى من ناحية إدارة المجتمع وحماية الأقلية وضمان تسيير المجتمع دون احتكاك كبير بين فئاته وطبقاته، ساهم في عزل اليهود وتجريدهم، أي تحويلهم إلى عنصر مجرد غير إنساني. كما أن العزلة خارج المدينة، داخل الأسوار العالية، جعلت علاقتهم ببقية السكان علاقة غير مباشرة وتعاقدية تستند إلى ميثاق مكتوب، فهي إذن علاقة مالية مجردة أكثر من كونها علاقة اجتماعية. ولقد ساهم تَحوُّل أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية تجارية، مع ما يتطلبه الأمر من حياد وتَجرُّد من العواطف، في ظهور الجيتو.
ولهذا، يمكن القول بأن الجيتو، في علاقته مع العالم الغربي، يشكل أول جيوب العلمانية والنفعية والتعاقدية الحقة في أوربا، ذلك أن العلاقات هنا لا يشوبها أي حب أو عاطفة بل هي علاقات رشيدة تماماً؛ عقلانية مادية، خاضعة للحسابات الصارمة للعرض والطلب وتنضوي داخل نسق هندسي كمي.