منهم، تسيِّره حكومة استبدادية متخلفة لا تسمح بالتعددية الدينية أو الفكرية أو المهنية، سياستها في جوهرها هي سياسة الملوك المطلقين المستبدين المستنيرين على نحو ما كان في وسط أوربا والنمسا وألمانيا (أي التحديث بالقوة ومن فوق) . ولم تكن لدى هذه الحكومة أية خبرة باليهود أو مشاكلهم، كما أن روسيا نفسها كانت على عتبات انفجارات اجتماعية ضخمة نتيجة عملية التحديث والعلمنة التي كانت تخوضها (وهي انفجارات أدَّت في نهاية الأمر إلى قيام الثورة البلشفية) . وتاريخ المسألة اليهودية في روسيا هو تاريخ الاحتكاك بين الكتلة البشرية اليهودية المنعزلة، بكل تَخلُّفها ومشاكلها وتَميُّزها من جهة، والبيروقراطية القيصرية المتخلفة بكل وحشيتها وتَعصُّبها وانعدام كفاءتها من الجهة الأخرى.
وظلت المشكلة قائمة دون حل. وكلما احتدمت الأزمة، كانت الحكومة الروسية تشكل لجنة لدراسة الموقف لترفع بدورها توصياتها للحكومة. وكانت هذه التوصيات تستند في معظم الأحيان إلى فلسفات شمولية مطلقة، وتنبع من جهل عميق بآليات الظواهر الاجتماعية ويتولى تنفيذها جهاز تنفيذي متعصب جاهل فاسد يتسم بعدم الكفاءة. وظل التناقض الأساسي في سياسة الحكومة القيصرية بين رغبتها في التحديث والتنمية الاقتصادية من جهة والشكل الاستبدادي السياسي الذي يُفشل كل المحاولات التي تستهدف حل المسألة اليهودية من جهة أخرى. وقد تعثر تماماً تحديث اليهود بل تحديث المجتمع ككل، في أواخر القرن التاسع عشر، واحتدم التناقض بين الحقيقة الاجتماعية والشكل المتكلس، الأمر الذي نجمت عنه مجموعة من الاضطرابات والثورات انتهت بالثورة البلشفية التي حلت المسألة اليهودية والمسائل القومية الأخرى بطريقة نوعية مختلفة.