ويمكن القول بأن تاريخ اليهودية منذ ذلك الحين هو تاريخ التأرجح بين الحلولية الثنائية الصلبة (المادية أو الروحية) والحلولية الشاملة السائلة (المادية أو الروحية) مع الاتساع التدريجي لنطاق الرؤية العالمية والحلولية السائلة. ويبدأ فكر حركة التنوير اليهودية بمحاولة التوفيق بين اليهودية وروح العصر. وروح العصر هنا هي مطلق كامن في الزمن لا يميِّز اليهود عن الأغيار وإنما يجمع بينهم. وقد انتشر الفكر الربوبي بين اليهود، وهو فكر حلولي عالمي، فالإله يحل في الطبيعة ويستطيع العقل البشري أن يحيط به دون حاجة إلى كتب سماوية أو إلى أية خصوصية دينية، فكتاب الطبيعة مفتوح أمام الجميع. وقد ورثت حركة التنوير اليهودية هذه الفكرة، وتأثرت بها اليهودية الإصلاحية التي بدأت ترى الإله كمبدأ واحد يسري في المخلوقات ولكنها احتفظت باسم الإله (حلولية شحوب الإله) .
وتشكل اليهودية المحافظة عودة إلى الحلولية الثنائية الصلبة إذ إن مركز الحلول يصبح الشعب اليهودي ومؤسساته القومية. وتحتفظ اليهودية المحافظة باسم الإله، ولكنه إله غير متجاوز، كتعبير عن الذات اليهودية، ولذا فهي تظل في إطار وحدة الوجود الروحية وشحوب الإله. والصهيونية هي الأخرى عودة للثنائية الصلبة، فبعد موت الإله يبقى الشعب المقدَّس المتمركز في أرضه المقدَّسة (المستوطنون الصهاينة في فلسطين) حيث تنتظمهم الدولة الصهيونية صاحبة الإرادة النيتشوية التي تَصدُر عن حقوق مطلقة منحها اليهود لأنفسهم وتساندها القوة العسكرية، وتقف هذه الدولة أمام الأغيار (الذين يقعون خارج نطاق القداسة) تمارس حقوقها بالقوة وتهدر حقوق الآخرين. والصهيونية تأخذ شكلين، ثنائية صلبة روحية (الإله يحل في الشعب) وثنائية صلبة مادية (القوة الدافعة للمادة الكامنة في الشعب) ، يترجمان نفسيهما إلى صهيونية دينية أو إلى علمانية. وأخيراً ترجمت الثنائية الصلبة نفسها إلى لاهوت موت الإله.