ويمكننا الآن أن نقارن بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. فلو كانت الدعاية الإلحادية وإشاعة الأفكار العلمانية الواضحة هي سبب علمنة الاتحاد السوفيتي لكانت معدلات العلمنة في الاتحاد السوفيتي تفوق المعدلات السائدة في الولايات المتحدة كثيراً. فالولايات المتحدة تسمح بحرية العقيدة وبالتبشير وبالدعاية الدينية، وعدد الكنائس في الولايات المتحدة كبير جداً. وحتى عهد قريب كان من المستحيل على أحد أعضاء النخبة الحاكمة أن يُجاهر بإلحاده ويحتفظ بمنصبه. ولا يزال هذا الوضع قائماً في كثير من الولايات، ولا يزال كثير من الساسة يحرصون على حضور الصلوات يوم الأحد، بل إن الدولار الأمريكي متوج بعبارة "نحن نثق بالإله". رغم كل هذا سنكتشف أن الولايات المتحدة هي أكثر البلاد علمنة بلا منازع. وهذا يعود إلى مركب من الأسباب من أهمها التغيرات البنيوية الضخمة (التي ليس لها نظير في أي مجتمع) التي أدَّت إلى تزايد التصنيع والتمدن وتَسارُع إيقاع الحياة بمعدلات تفوق المعدلات السائدة في الاتحاد السوفيتي.
ويمكن القول بأن ظهور الدولة المركزية من أهم أشكال العلمنة البنيوية الكامنة. فالدولة المركزية، نظراً لطبيعتها وبنيتها، لا يمكنها أن تتعامل مع الجماعات الصغيرة أو الوحدات الاجتماعية التي تتمتع بقدر من الخصوصية، فالتعامل مع الوحدات الكبيرة أمر أيسر بكثير بالنسبة لها، ولذا فهي تميل نحو التنميط والترشيد في إطار النماذج الكمية والمادية. وهذا إما أن يؤدي إلى علمنة المجتمع أو إلى خلق تربة خصبة لتقبل العلمانية. وكثيرون ممن تبنوا نمط الدولة المركزية القومية لم يكونوا مدركين لهذه الخاصية البنيوية اللصيقة بها.