إن التحديث (في إطار العلمانية الشاملة) يَصدُر عن تأكيد زمنية ومكانية ومادية كل شيء، وإخضاع كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، لعمليات الترشيد العقلاني المادي في إطار معايير عقلانية صارمة. وعملية التحديث متتالية تحققت تدريجياً. وتَحقُّقها التدريجي هذا يعني التصاعد التدريجي والمستمر للواحدية المادية إلى أن تسيطر تماماً. ولذا، فإن ثمة تراجعاً مستمراً عن الفلسفة الإنسانية (الهيومانية) وعن ثنائية الإنسان والطبيعة وعن الإيمان بالثبات والتجاوز، وهو في واقع الأمر تَصاعُد مطرد للواحدية المادية ومحو لكل الثنائيات والخصوصيات والهويات والثبات وتفكيك لمقولة الإنسان كمقولة لها حدودها المستقلة المتماسكة ليسقط الإنسان تماماً في قبضة الصيرورة وزمانية ومكانية منظومة الحداثة العلمانية الشاملة. ولعل ما يُسمَّى التلاقي (بين النظم الرأسمالية والاشتراكية) ، وهيمنة النماذج البيروقراطية والكمية، وإزاحة الإنسان عن المركز، والتَسلُّع، والتحييد، والتَشيُّؤ، والاغتراب، ونزع القداسة عن العالم، وإنكار الجوهر الإنساني، والهجوم على الإنسانية المشتركة، والنظام العالمي الجديد ... إلخ هو تعبير عن نفس الظاهرة وليس مجرد انحرافات عن مسار التحديث وعن جوهره.