ويمكن القول بأن كل مجتمع إنساني يستند إلى عقد صامت بين أعضائه ينطلق من بعض المقولات الأولية القَبْلية التي يؤمن بها أعضاء هذا المجتمع، وتستمد السلطة الحاكمة شرعية وجودها واستمرارها من هذا العقد. والحديث عن «العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية» هو محاولة من جانبنا لتسمية شيء كامن مهم مُتضمَّن لم يُسمِّه أحد من قبل، رغم المقدرة التفسيرية للمصطلح.
وقد ظل تاريخ الصهيونية متعثراً قبل ظهور هرتزل وظلت الصهيونية فكرة غير قادرة على التحقق لأسباب عديدة من أهمها أن دعاة الفكر الصهيوني كانوا من الصهاينة غير اليهود أو من أعداء اليهود، الأمر الذي جعل أعضاء المادة البشرية المستهدفة (أي اليهود) يرفضون الدعوة إلى استيطان فلسطين. كما أنه لم تكن هناك أية أطر تنظيمية تضم كل الجماعات اليهودية. وعلاوة على هذا كان هناك يهود الغرب المندمجين الذين كانوا يرون أن المشروع الصهيوني يهدد وجودهم ومكانتهم وكل ما حققوه من مكاسب.
وقد حل هرتزل كل هذه الإشكاليات، فقام بوضع العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية استناداً للصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي نبعت من صميم هذه الحضارة ومن تاريخها الفكري والاقتصادي والسياسي. ولم يكتف هرتزل بوضع العقد وإنما قام بتأسيس المنظمة الصهيونية التي طرحت نفسها كإطار تنظيمي يمكن من خلاله توقيع العقد مع الحضارة الغربية وفرض الصيغة الصهيونية الشاملة على الجماهير اليهودية بحيث تتحول هذه الجماهير إلى مادة استيطانية ويدخل المشروع الصهيوني إلى حيز التنفيذ. كما طوَّر هرتزل الخطاب المراوغ الذي جعل بالإمكان إرضاء مختلف قطاعات يهود العالم الغربي (في غرب أوربا وشرقها) ، بل استيعاب كل ما قد يجد من مشاكل في المستقبل، الأمر الذي فتح الباب أمام تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.