ويمكن القول بأنه تم استبعاد أي تجاوز معرفي أو مطلقية أخلاقية، وتم تبنِّي الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية وما يتبعها من تمجيد لإرادة البقاء والقوة، وطُرحت الصيغة الصهيونية الأساسية التي تشكل العمود الفقري لكل الصهيونيات: شعب عضوي منبوذ نافع يُنقَل خارج أوربا ليُوظَّف لصالح الغرب، وهي صيغة علمانية كاملة لا تعترف بقداسة أرض أو إنسان ولا تعترف بأية أخلاقيات تضبط عملية العودة. وفي هذا الإطار، يمكن فَهْم مشاريع الاستيطان الصهيونية المختلفة خارج فلسطين (صهيونية دون صهيون) ، فهي مشاريع استعمارية عادية، شأنها في هذا شأن أيِّ مشروع استعماري غربي يهدف إلى حل بعض المشاكل الاجتماعية التي ظهرت داخل التشكيل الحضاري السياسي الغربي عن طريق نقلها إلى آسيا وأفريقيا. فالمشكلة كانت المسألة اليهودية وكان حلها نَقْل اليهود إلى أي مكان في الأرض وتحويلهم إلى مستوطنين غربيين.
وحتى بعد أن ظهرت الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة (توظيف اليهود داخل إطار الدولة الوظيفية التي تُؤسَّس في فلسطين) ، ظل كثير من الصهاينة ينظرون لمشروع الاستيطان الصهيوني في فلسطين من خلال المنظور نفسه، أي باعتباره مشروعاً استعمارياً غربياً.
وإذا كانت المنظومة العلمانية في العالم الغربي قد أخذت شكل تأسيس الدولة القومية العلمانية التي قامت بعلمنة المادة البشرية داخل نطاق الدولة وبترشيدها حتى يمكن توظيفها، ثم قامت بعد ذلك بتجييش الجيوش التي حقَّقت الانطلاقة الإمبريالية الغربية، فإن الاختلاف في حالة الصهيونية اختلاف فرعي، إذ تمت أولاً علمنة المادة البشرية اليهودية من خلال الدول القومية الغربية، ثم تم بعد ذلك نَقْل المادة البشرية بمعاونة القوى الإمبريالية الغربية، وتم أخيراً تأسيس الدولة اليهودية القومية العلمانية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الإمبريالي الغربي، فالاختلاف لا ينصرف إلى الرؤية وإنما إلى ترتيب الخطوات.