ولكن معدلات الترشيد المادي والعلمنة المادية والحلولية الكمونية المادية أخذت في التزايد، فزادت معدلات النسبية إلى أن سيطرت تماماً وسقط الكل المادي المتجاوز (إنسانياً كان أم طبيعياً/مادياً) ووقع كل شيء في قبضة الصيرورة. وبدأت الحضارة الغربية تُنتج فلسفات معادية للعقل تنكر الكون والكليات والمطلقات والحدود وتنكر وجود الذات والموضوع وتنكر وجود أي مركز، وتعلن استحالة قيام نظم معرفية وأخلاقية عالمية. هذه الفلسفات المادية اللاعقلانية هي نفسها فلسفات جنينية لا تقف ضد الديانات العالمية التقليدية وحسب وإنما ضد العقلانية المادية الصلبة نفسها، ولا تقف ضد الميتافيزيقا الإيمانية وحسب وإنما ضد الميتافيزيقا المادية أيضاً، أي ضد أية ميتافيزيقا. والحضارة المعاصرة هي نتاج هذه النسبية الكاملة وهذه السيولة الفلسفية الشاملة، نتاج هذا النزوع الجنيني نحو إنكار الحدود والهوية والكليات. وهذه السيولة نمط سائد في سائر الأنساق الحلولية الكمونية المادية في كل الحضارات. وعادةً ما تُظهر هذه المنظومات قدراً من التماسك في العصر البطولي ولكنها تنحل دائماً إلى مادة محضة غير متشكلة لا مركز لها ولا قوام، ولا تسمح بقيام أية كليات. وقد نبهنا إلى ذلك السوفسطائيون في بداية تاريخ الفلسفة الغربية، وكما نبهنا نيتشه في نهاية القرن الماضي، كما يبين لنا أنصار ما بعد الحداثة هذه الأيام.