ولعله، بإخفاقه هذا، لم ينجح في تفسير عظمة هذه الحضارة الحديثة في مراحلها الأولى (في عصرها البطولي) وطموحها نحو النظرية العامة وتفسير الكون بأسره، بل الهيمنة الإمبريالية العالمية عليه، كما لم ينجح في تفسير كيف أن ما تُصدِّره لنا الآن هذه الحضارة الغربية الحديثة يقف على طرف النقيض من كل ما تعلمناه منها من قبل. فهي حضارة لم تَعُد تبحث عن الحقيقة الكلية والقصة العظمى، وإنما أصبحت قانعة راضية بالنسبية. وهي حضارة كانت تُنتج أشكالاً فنية متماسكة ذات معنى فانغمست في التجريب وأدمنت البدايات الجديدة بشكل دائم وغاصت في التشظي الفلسفي والفني. وبعد أن كانت تؤمن بالمحاكاة والمقدرة على التواصل، أصبحت تنكر هذا الآن، وأخيراً فإن هذه الحضارة العقلانية المادية أصبحت حضارة لاعقلانية مادية. ونموذجنا التفسيري قادر على الإحاطة بهذا التناقض، فقد كانت رغم أن السيولة الفلسفية كامنة في المشروع التحديثي في ماديته وتفكيكيته، إلا أنها كانت في حالة كمون وحسب، ولم تبدأ في التحقق إلا مع نهايات القرن التاسع عشر ثم اكتسحت أوربا مع منتصف القرن العشرين، وها هي ذي تكتسح العالم بأسره على هيئة فكر ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد.