مفهوم «المصلحة الإستراتيجية» ليس مفهوماً بسيطاً أو عقلانياً. ومما لا شك فيه أن عملية اتخاذ القرار السياسي في العالم الغربي مركبة لأقصى حد، فهي تتم من خلال مؤسسات يديرها علماء متخصصون (تكنوقراط) بطريقة "رشيدة"، بمعنى أنها تتبع إجراءات معروفة ومحددة لا تخضع للأهواء الشخصية، ولذا لا يُتخذ القرار إلا بعد توفير المعلومات اللازمة وإشراك المستشارين والمتخصصين. ثم بعد ذلك تتم عملية موازنات صعبة ودقيقة بشأن حساب المكسب والخسارة وجدوى القرار وقوة العدو ونقط ضعفه. وعلى سبيل المثال، حينما قرَّر كيسنجر التخلص من حكم الليندي في تشيلي الذي كان قد وصل إلى سدة الحكم من خلال انتخابات نزيهة، وأحل محله حكماً عسكرياً شرساً. وحينما قررت الولايات المتحدة دعم الكونترا وهو ما يعني التدخل في الشئون الداخلية لنيكاراجوا وإثارة حفيظة دول أمريكا اللاتينية التي كانت تعلم تماماً أن نظام الساندنيستا ليس نظاماً شيوعياً كما تزعم الولايات المتحدة وإنما نظام وطني ينحو منحى يسارياً. نقول، حينما قررت الولايات المتحدة أن تفعل ذلك، فإنها كانت مدركة تماماً أن ثمة خسارة ما ولكن حساب المكسب والخسارة كان واضحاً، فالعائد السياسي (القضاء على نظم قومية تحاول أن تحرز نمواً اقتصادياً خارج نطاق المنظومة الرأسمالية والهيمنة الأمريكية والغربية) كان أعلى كثيراً من العادم (تدعيم صورة اليانكي القبيح المستغل وترسيخها في الوجدان اللاتيني) . والشيء نفسه ينطبق على قرار غزو بنما والقضاء على عميل مهم للولايات المتحدة، فنروييجا كان مخلوق أمريكا القبيح. وحينما أرسلت الولايات المتحدة قوتها للقيام بعملية الغزو فإنها كانت مدركة أن العائد الاجتماعي السياسي (القضاء على واحد من أهم مصادر المخدرات، وبالتالي حل مشكلة المخدرات التي تهدد نسيج المجتمع الأمريكي وأمنه القومي ودعم صورة المؤسسة الحاكمة أمام جماهيرها، على أنها مؤسسة جادة في عملية