وما نود تأكيده هنا أن سلوك دولة عظمى مثل الولايات المتحدة ليس مسألة تتم حسب قواعد رشيدة بسيطة، وإنما هو نتيجة عملية مركبة تدخل فيها عناصر "ذاتية" وعقائدية ومادية وغير مادية، قد لا تنضوي بالضرورة داخل إطار الرشد كما نتخيله (وهنا يأتي دور الصور الذهنية وعالم الرموز والتراث المسيحي اليهودي والذاكرة التاريخية ... إلخ) . وإن لم يكن الأمر على هذا النحو، فكيف نفسِّر دخول الولايات المتحدة حرباً ضروساً في فيتنام (بعد هزيمة فرنسا فيها) ، وتورطها في هذه الحرب لعشرات السنين، وإنفاقها بلايين الدولارات وإهدارها دماء عشرات الألوف من الأمريكيين والفيتناميين، في حرب كان يعرف الجميع أنها خاسرة، واعترف بذلك ـ فيما بعد ـ مهندس الحرب الحقيقي روبرت ماكنمارا؟ ولماذا لم تخرج هذه الدولة العقلانية من الحرب إلا بعد تصاعُد المظاهرات في الولايات المتحدة لما يزيد عن عشرة أعوام؟
وأعتقد أن الغرب قد عرَّف مصلحته الإستراتيجية منذ بداية القرن التاسع عشر بطريقة تجعله ينظر للمنطقة العربية باعتبارها مصدراً هائلاً للمواد الخام (الرخيصة) ومجالاً خصباً للاستثمارات الهائلة (التي تعود عليه وحده بالربح) وسوقاً عظيمة لسلعه (التي ينتجها ويصرفها فيزداد هو ثراءً) ، أو قاعدة إستراتيجية شديدة الخطورة والأهمية (بالنسبة لأمنه هو) إن لم يتحكم فيها قامت قوى معادية (مثل الاتحاد السوفيتي في الماضي) باستخدامها ضده، ويعبِّر هذا الموقف عن نفسه في مصطلح مثل «الفراغ» الذي كثيراً ما يُستخدَم للإشارة إلى شرقنا العربي وكأن وطننا رقعة أرض أو مساحة لا يقطنها شعب عريق له امتداده الحضاري، وكأن أوطاننا هي وجود جغرافي رحب مجرد من التاريخ، أي أننا في الإدراك الغربي مجرد شيء قد يصلح للاستخدام أو الاستعمال.