ويمكن هنا أن نطرح سؤلاً: لمَ لجأ الغرب إلى آلية الدولة الوظيفية لتحقيق أهدافه، وذلك بدلاً من الآلية الأكثر شيوعاً، أي آلية الجماعة الوظيفية؟ ولمَ لمْ يُوطِّن الاستعمار الغربي اليهود في فلسطين ليقوموا بدور الجماعة الوظيفية القتالية التي تعمل تحت إشرافه ولصالحه بشكل مباشر كما فعل الفرس والهيلينيون من قبل حيث وظفوا الجماعات اليهودية بهذا الشكل؟ هناك مركب من الأسباب لتفسير هذه الظاهرة، ولعل أهمها هو طبيعة المجتمعات في العصر الحديث حيث تغلغلت فيها مُثُل الديموقراطية والعدالة الاجتماعية وهي مجتمعات تربطها وسائل الاتصال الحديثة (من صحافة وتليفزيون ووسائل مواصلات واتصال) تجعل الاحتفاظ بطبقة منعزلة حضارياً، ومتميِّزة وظيفياً وطبقياً، أمراً عسيراً، بل مستحيلاً. ولكن إذا شكلت هذه الطبقة دولة قومية مستقلة، فيمكنها حينذاك أن تحتفظ بعزلتها وتَميُّزها بسهولة ويُسر، كما يمكن تسويغ وجودها وحقها في البقاء باللجوء إلى ديباجة حديثة، ويصبح الاستعمار الاستيطاني «حركة تَحرُّر وطني» ، ويتخذ اغتصاب فلسطين اسم «إعلان استقلال إسرائيل» ، ويصبح الدور القتالي «دفاعاً مشروعاً عن النفس» ، وتتخذ قوات الجماعة الوظيفية الاستيطانية القتالية اسم «جيش الدفاع الإسرائيلي» ، وتصبح العزلة هي «الهوية» ، وتصبح لغة المحاربين لا التركية أو الشركسية (كما هو الحال مع المماليك) وإنما العبرية، وهي لغة أهم كتب العالم الغربي المقدَّسة. ويعيش أعضاء الجماعة الوظيفية القتالية لا في جيتو خاص بهم أو ثكنات عسكرية مقصورة عليهم وإنما داخل الدولة/ الشتتل/القلعة، ويستمرون في تعميق هويتهم (أي عزلتهم) وفي القتل والقتال نظير المال والمكافآت الاقتصادية وغير الاقتصادية السخية، متخفين خلف أكثر الديباجات رقياً وحداثة.