ولكن يبدو أن فوكوياما، بعد أن استخدم نموذج العلوم الطبيعية/المادية بهذه السوقية والفجاجة، وبعد أن أكد أسبقية المادة على الإنسان بشكل مطلق، يحاول أن يراجع نفسه ويقرر أن يُدخل عنصراً إنسانياً غير مادي (وهذا نمط متكرر في الأيديولوجيات المادية العلمانية كافة، فهي لا تستطيع أن تواجه وحشية ماديتها، ومن هنا فإنها تُدخل مُحسِّنات روحية معرفية) . والعنصر الإنساني غير المادي الذي يُدخله فوكوياما هو سعي البشر إلى نيل الاعتراف بقدرهم أو الاعتراف بقدر الأشخاص أو الأشياء أو المبادئ التي يعتقدون أن لها قدراً كبيراً (وهو ما يُسمَّى «عزة النفس» ) . والديموقراطية الليبرالية ستحقق كل ما يريده الإنسان على المستويين الاقتصادي (المادي) والإنساني (غير المادي) . ولكن رغم كل هذه المحسنات، نجد أن فوكوياما يثير الشكوك حول إمكان أن يؤدي التطور التاريخي العلمي إلى سعادة الإنسان، فالتأثير النهائي لهذا التطور على سعادة البشر أمر غامض. بل إن فوكوياما يورد، بقدر من الاستحسان، عبارة من كتابات كوجيف (مفسر هيجل الذي يعتمد عليه فوكوياما) يقول فيها: "إن اختفاء الإنسان بانتهاء التاريخ ليس بكارثة كونية [طبيعية/مادية] . فالعالم الطبيعي [المادي] سيبقى كما كان عليه منذ البداية. ولا هو بكارثة بيولوجية، فالإنسان سيبقى حياً كالحيوانات منسجماً مع الطبيعة/المادة". أما ما سيختفي، فهو الإنسان بمعناه الشائع؛ والإنسان بمعناه الشائع أمر حضاري تاريخي مُركَّب لا يهتم به الماديون الطبيعيون كثيراً.