للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما بعد الحداثة هي الرؤية الفلسفية التي أحرزت مؤخراً شيوعاً لا نظير له في العالم الغربي، وهي رؤية تنطلق من عدة أطروحات فلسفية متداخلة ومصطلحات صاخبة رنانة (تتغيَّر بمعدل مرة كل أسبوع تقريباً) كلها تؤكد غياب المرجعيات وتآكل الذات وفقدانها حدودها، وتآكل الموضوع وفقدانه حدوده، وهيمنة النسبية المعرفية الأخلاقية، ومن ثم استحالة الوصول إلى فكرة الكل، سواء كانت هي فكرة الإله أو الأخلاق المطلقة أو الطبيعة البشرية (أساس الأنطولوجيا الغربية) (تُعتبَر فلسفة ما بعد الحداثة قمة الثورة ضد الهيجلية، وهي تَبلور للاتجاه الفلسفي الغربي المعادي للفلسفة) . ولكن هذا يعني في واقع الأمر اختفاء العقل، أي الملكة التي يقوم الإنسان من خلالها بمراكمة المعنى والإنجازات، ويظهر ما سماه أحدهم «ذاكرة الكلمات المتقاطعة» ، أي معلومات متناثرة لا يربطها رابط وينشأ الإحساس بأننا في الحاضر الأزلي، تَغيُّر مستمر بلا ماض ولا مستقبل، تجارب دائمة بلا عمق ولا معنى. ويتحول التاريخ إلى مجرد لحظات جامدة، وزمن مسطح لا عمق له، ملتف حول نفسه لا قسمات له ولا معنى.

ويتزامن الحاضر والماضي والمستقبل تتساوى تماماً مثل تَساوي الذات والموضوع والإنسان والأشياء، ولكنه تَزامُن دون استمرار، فثمة انقطاع كامل. ومن هنا، يتحدث أنصار ما بعد الحداثة عن إحلال القصص الصغيرة (أو الجزئية أو الذاتية) محل القصة الكبيرة (أو الشاملة أو الكلية) ، أي أن الإنسان غير قادر على الوصول إلى رؤية تاريخية شاملة تضم البشر كافة ولكنه قادر على خوض تجارب جزئية يمكنه أن يقصها بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل، ولكنها لا ترقى البتة إلى مستوى تاريخ عام للبشر، فليست لها أية شرعية خارج نطاق تجربته.

<<  <  ج: ص:  >  >>