وفي هذا الإطار، نلاحظ أن العربي الجديد، وهو المقابل البنيوي لليهودي الأبيض، لا يأتي ذكره إلا في النادر. ومن هذه اللحظات النادرة ما دوَّنه هرتزل في يومياته حينما كان في القاهرة يتفاوض في شأن أحد مشروعاته الاستيطانية، فقد استمع الزعيم الصهيوني إلى محاضرة عن الري، ويبدو أنه رأى بعض المصريين واستمع إلى أسئلتهم، فكتب يقول:" [المصريون] هم سادة المستقبل هنا، ومن العجيب أن الإنجليز لا يرون ذلك، فهم يعتقدون أنهم سيتعاملون مع الفلاحين إلى الأبد". ثم أخذ هرتزل بعد ذلك يصف كيف أن الاستعمار نفسه يخلق الجرثومة التي تقضي عليه، وذلك لأنه يعلِّم الفلاحين الثورة. ثم أبدى هرتزل دهشته لفشل البريطانيين في إدراك هذه الحقيقة البسيطة. ويحق للمرء أن يتعجب لفشله هو نفسه في إدراكها، إذ أنه ذهب ليتفاوض في اليوم التالي بشأن منطقة العريش لتكون موطناً للاستيطان الصهيوني. ويبدو أن ما حدث هو لحظة إدراك تاريخية نادرة من جانب الزعيم الصهيوني فَهم فيها الاستعمار البريطاني باعتباره ظاهرة تاريخية إنسانية لا تتسم بالثبات. ولكنه غاص، مرة أخرى، في الأسطورة الصهيونية الحلولية العضوية، فاستثنى الاستعمار الصهيوني المقدَّس والمطلق من هذا القانون التاريخي الإنساني، ولم تُترجَم لحظة الإدراك نفسها إلى حكمة إنسانية أو سلوك عقلاني.