هَذَا فَأَصْحَابُ الْمَثَلِ الْأَوَّلِ النَّارِيِّ شَرٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْمَثَلِ الثَّانِي الْمَائِيِّ كَمَا يَدُلُّ السِّيَاقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُقَالُ: - وَهُوَ أَوْلَى - إِنَّ الْمَثَلَيْنِ لِسَائِرِ النَّوْعِ. وَأَنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ مُقْتَضَى الْمَثَلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ. وَالْحُصُولِ فِي الظُّلُمَاتِ بَعْدَ النُّورِ، وَبَيْنَ مُقْتَضَى الْمَثَلِ الثَّانِي مِنْ ضِعْفِ الْبَصِيرَةِ فِي الْقُرْآنِ وَسَدِّ الْآذَانِ عِنْدَ سَمَاعِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ هَذَا وَهَذَا، وَقَدْ يَكُونُ الْغَالِبُ عَلَى فَرِيقٍ مِنْهُمُ الْمَثَلَ الْأَوَّلَ، وَعَلَى فَرِيقٍ " مِنْهُمْ " الْمَثَلَ الثَّانِي.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْحِكَمِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْمَثَلَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ]
وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَانِ الْمَثَلَانِ عَلَى حِكَمٍ عَظِيمَةٍ:
مِنْهَا: أَنَّ الْمُسْتَضِيءَ بِالنَّارِ مُسْتَضِيءٌ بِنُورٍ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ لَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ تِلْكَ النَّارُ بَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ. وَهَكَذَا الْمُنَافِقُ لَمَّا أَقَرَّ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ وَمَحَبَّةٍ بِقَلْبِهِ وَتَصْدِيقٍ جَازِمٍ كَانَ مَا مَعَهُ مِنَ النُّورِ كَالْمُسْتَعَارِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ ضِيَاءَ النَّارِ يَحْتَاجُ فِي دَوَامِهِ إِلَى مَادَّةٍ تَحْمِلُهُ وَتِلْكَ الْمَادَّةُ لِلضِّيَاءِ بِمَنْزِلَةِ غِذَاءِ الْحَيَوَانِ، فَكَذَلِكَ نُورُ الْإِيمَانِ يَحْتَاجُ إِلَى مَادَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ يَقُومُ بِهَا وَيَدُومُ بِدَوَامِهَا فَإِذَا انْقَطَعَتْ مَادَّةُ الْإِيمَانِ طُفِيءَ كَمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِفَرَاغِ مَادَّتِهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ الظُّلْمَةَ نَوْعَانِ: ظُلْمَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لَمْ يَتَقَدَّمْهَا نُورٌ، وَظُلْمَةٌ حَادِثَةٌ بَعْدَ النُّورِ وَهِيَ أَشَدُّ الظُّلْمَتَيْنِ وَأَشَقُّهُمَا عَلَى مَنْ كَانَتْ حَظَّهُ، وَظُلْمَةُ الْمُنَافِقِ ظُلْمَةٌ بَعْدَ إِضَاءَةٍ فَمُثِّلَتْ حَالُهُ بِحَالِ الْمُسْتَوْقِدِ لِلنَّارِ الَّذِي حَصَلَ فِي الظُّلْمَةِ بَعْدَ الضَّوْءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ فِي الظُّلُمَاتِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا قَطُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute