قلت: إنّما سألا عن مصر وبغداد، فقال: البصرة أطيب؛ ذاك الخراب وقلة الناس، ويطيب القلب بتلك المقابر والزيارات. وأما بغداد ومصر، فليس فيهما خير من الزَّحمة والأكاسرة.
وكان هياج فقيه الحرم بعد رافع الحمال.
وسمعته يقول: كان لرافع الحمَّال في الزُّهد قِدَم، وإنّما تفقّه أبو إسحاق الشيرازيّ، وأبو يَعْلَى بن الفرّاء بمُراعاة رافع. كانوا يتفقهون، وكان يكون معهما، ثمّ يروح يحمل على رأسه، ويعطيهما ما يتقوَّتان به.
قال ابن طاهر: وكان هَيّاج قد بلغ من زُهْده أنه يصوم ثلاثة أيام، ويواصل ولا يُفْطِر إلّا على ماء زمزم. فإذا كان آخر اليوم الثالث من أتاه بشيء أكله، ولا يسأل عنه.
وكان قد نيف على الثمانين، وكان يعتمر في كلّ يومٍ ثلاث عُمَر على رِجْلَيه، ويدرس عدّة دروس لأصحابه. وكان يزور عبد الله بن عبّاس بالطائف كلّ سنة مرّة، يأكل بمكة أكله، وبالطائف أخرى.
وكان يزور النبّيَّ -صلى الله عليه وسلم- كلّ سنة مع أهل مكّة. كان يتوقّف إلى يوم الرحيل، ثمّ يخرج، فأوّل من أخذ بيده كان في مؤنته إلى أن يرجع، وكان يمشي حافيا من مكّة إلى المدينة ذاهبًا وراجعًا.
وسمعته يقول، وقد شكى إليه بعض أصحابه أنّ نَعْلَه سُرقت في الطّواف: اتَّخذ نَعْلَين لا يسرقهما أحد.
ورُزق الشهادة في وقعةٍ وقعَتَ لأهل السُّنَّة بمكّة، وذلك أنّ بعض الرّوافض شكى إلى أمير مكّة: أنّ أهل السُّنَّة ينالون منّا ويبغضوننا. فأنفذ وأخذ الشّيخ هيَّاجًا، وجماعة من أصحابه، مثل أبي محمد بن الأنماطي، وأبي الفضل بن قوّام، وغيرهما. وضربهم، فمات الاثنان في الحال، وحُمل هيّاج إلى زاويته، وبَقِي أيّامًا، ومات من ذلك -رضي الله عنه١.