للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَيُقَالُ: كَانَ الْمُخْتَارُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا، فَقُتِلَ أَكْثَرُهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَتَلَ مُصْعَبٌ خَلْقًا بِدَارِ الْإِمَارَةِ غَدْرًا بَعْدَ أَنْ أمَّنَهُمْ، وَقَتَلَ عَمْرَةَ بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ امْرَأَةَ الْمُخْتَارِ صبرًا؛ لأنها شهدت في المختار عَبْدٌ صَالِحٌ.

وَبَلَغَنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَجِيءُ مُصْعَبٍ تَسَرَّبُوا١ إِلَيْهِ إِلَى الْبَصْرَةِ، مِنْهُمْ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٌّ، وَتَحْتَهُ بَغْلَةٌ قَدْ قَطَعَ ذَنَبَهَا وَأُذُنَهَا، وَشَقَّ قِبَاءَهُ، وَهُوَ يُنَادِي: يَا غَوْثَاهْ، وَجَاءَ أَشْرَافُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَخْبَرُوا مُصْعَبًا بِمَا جَرَى، وَبِوُثُوبِ عَبِيدُهُمْ وَغُلْمَانُهُمْ عَلَيْهِمْ مَعَ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَلَمْ يَكُنْ شَهِدَ وَقْعَةَ الْكُوفَةِ، بَلْ كَانَ فِي قصر له بقرب القادسية، فأكرمه مصعب وأدناه لِشَرَفِهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ -وَكَانَ عَامِلُ فَارِسٍ- لِيَقْدُمَ، فَتَوَانَى٢ عَنْهُ، فَبَعَثَ مُصْعَبٌ خَلْفَهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ، فَقَالَ لَهُ الْمُهَلَّبُ: مِثْلُكَ يَأْتِي بَرِيدًا؟ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَنَا بَرِيدُ أَحَدٍ، غَيْرَ أَنَّ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا غَلَبَنَا عَلَيْهِمْ عِبْدَاؤُنَا وَمَوَالِينَا، فَأَقْبَلَ الْمُهَلَّبُ بِجُيُوشٍ وَأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ، وَهَيْئَةٍ لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَلَمَّا انْهَزَمَ جَيْشُ الْمُخْتَارِ انْهَدَّ لِذَلِكَ، وَقَالَ لِنَجِيٍّ لَهُ: مَا مِنَ الْمَوْتِ بُدٌّ، وَحَبَّذَا مَصَارِعَ الْكِرَامِ، ثُمَّ حُصِرَ الْقَصْرُ، وَدَامَ الْحِصَارُ أَيَّامًا، ثُمَّ فِي أَوَاخِرِ الْأَمْرِ كَانَ الْمُخْتَارُ يَخْرُجُ فَيُقَاتِلُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ قِتَالًا ضَعِيفًا، ثُمَّ جَهَدُوا وَقَلَّ عَلَيْهِمُ الْقُوتُ وَالْمَاءُ، وَكَانَ نِسَاؤُهُمْ يَجِئْنَ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ خِفْيَةً، فَضَايَقَهُمْ جَيْشُ مُصْعَبٍ، وَفتَّشُوا النِّسَاءَ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ: وَيْحَكُمُ انْزِلُوا بِنَا نُقَاتِلُ حَتَّى نُقْتَلَ كِرَامًا، وَمَا أَنَا بِآيِسٍ إِنْ صَدَقْتُمُوهُمْ أَنْ تُنْصَرُوا، فَضَعُفُوا، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَلَا وَاللَّهِ لَا أُعْطِي بِيَدِي، فَأَمَّلَسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْمَخْزُومِيُّ فَاخْتَبَأَ، وَأَرْسَلَ الْمُخْتَارُ إِلَى امْرَأَتِهِ بِنْتِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِطِيبٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَتَحَنَّطَ٣ وَتَطَيَّبَ، ثُمَّ خَرَجَ حَوْلَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فِيهِمُ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ خَلِيفَتُهُ عَلَى الْكُوفَةِ، فَقَالَ السَّائِبُ: مَا تَرَى؟ قَالَ: أَنَا أَرَى أَمِ اللَّهُ يَرَى! قَالَ: بَلِ اللَّهُ يَرَى، وَيْحَكَ أَحْمَقُ أَنْتَ، إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ انْتَزَى عَلَى الْحِجَازِ، وَرَأَيْتُ نَجْدَةَ انْتَزَى٤ عَلَى الْيَمَامَةِ، وَرَأَيْتُ مَرْوَانَ انتزى


١ تسربوا: تسللوا.
٢ توانى: تباطأ.
٣ تحنط: لبس كفنه استعدادا للموت.
٤ انتزى: وثب.