للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَأَسَّسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي إِقَامَتِهِ بِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَسْجِدَ قُبَاءَ. وَصَلَّى الْجُمُعَةَ فِي بَنِي سَالِمٍ فِي بَطْنِ الْوَادِي. فَخَرَجَ مَعَهُ رِجَالٌ مِنْهُمْ: وَهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعَتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَهُمْ وَيُقِيمَ فِيهِمْ، فَقَالَ: "خَلُّوا النَّاقَةَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ". وَسَارَ وَالْأَنْصَارُ حَوْلَهُ حَتَّى أَتَى بَنِي بَيَاضَةَ١، فَتَلَقَّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَدَعُوهُ إِلَى النُّزُولِ فِيهِمْ، فَقَالَ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ". فَأَتَى دُورَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ؛ وَهُمْ أَخْوَالُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَتَلَقَّاهُ سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ، وَرِجَالٌ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، فَدَعُوهُ إِلَى النُّزُولِ وَالْبَقَاءِ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ". وَمَشَى حَتَّى أَتَى دُورَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَبَرَكَتِ النَّاقَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مِرْبَدُ تَمْرٍ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ. وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَحَرْثٌ وَخِرَبٌ، وَقُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَنْزِلْ عَنْ ظَهْرِهَا، فَقَامَتْ وَمَشَتْ قَلِيلًا، وَهُوَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُهَيِّجُهَا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ فَكَرَّتْ إِلَى مَكَانِهَا وَبَرَكتْ فِيهِ، فَنَزَلَ عَنْهَا. فَأَخَذَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَحْلَهَا فَحَمَلَهُ إِلَى دَارِهِ. وَنَزَلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتٍ مِنْ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ. فَلَمْ يَزَلْ سَاكِنًا عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وحُجَرَهُ فِي الْمِرْبَدِ. وَكَانَ قَدْ طَلَبَ شِرَاءَهُ فَأَبَتْ بَنُو النَّجَّارِ مِنْ بَيْعِهِ، وَبَذَلُوهُ لِلَّهِ وَعَوَّضُوا الْيَتِيمَيْنِ. فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ. وَبَنَى عِضَادَتَيْهِ بِالْحِجَارَةِ، وَجَعَلَ سَوَارِيهِ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، وَسَقَفَهُ بِالْجَرِيدِ. وَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ حِسْبَةً.

فَمَاتَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيُّ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِالذُّبَحَةِ. وَكَانَ مِنْ سَادَةِ الْأَنْصَارِ وَمِنْ نُقَبَائِهِمُ الْأَبْرَارِ. وَوَجَدَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجْدًا لِمَوْتِهِ٢، وَكَانَ قَدْ كَوَاهُ. وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ بَعْدَهُ نَقِيبًا وَقَالَ: "أَنَا نَقِيبُكُمْ". فَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِذَلِكَ.

وَكَانَتْ يَثْرِبُ لَمْ تُمَصَّرْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قُرًى مُفَرَّقَةً: بَنُو مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فِي قَرْيَةٍ، وَهِيَ مِثْلُ الْمَحِلَّةِ، وَهِيَ دَارُ بَنِي فُلَانٍ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ: "خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ" ٣.

وَكَانَ بَنُو عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ لَهُمْ دَارٌ، وَبَنُو مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ كَذَلِكَ، وَبَنُو سَالِمٍ كَذَلِكَ، وَبَنُو سَاعِدَةَ كَذَلِكَ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ كَذَلِكَ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كذَلَكِ، وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَذَلِكَ، وَسَائِرُ بُطُونِ الْأَنْصَارِ كَذَلِكَ.

قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ" ٤.

وَأَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ تُبْنَى الْمَسَاجِدُ فِي الدُّورِ. فَالدَّارُ -كَمَا قُلْنَا- هِيَ الْقَرْيَةُ. وَدَارُ بَنِي عَوْفٍ هِيَ قُبَاءٌ. فَوَقَعَ بِنَاءُ مَسْجِدِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَكَانَتْ قَرْيَةً صَغِيرَةً.

وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فيهم أربع عشرة ليلة. ثم أرسل إلى بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا.

وَآخَى فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. ثُمَّ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ. وَأَسْلَمَ الْحَبْرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ٥، وَأُنَاسٌ مِنَ اليهود، وكفر سائر اليهود.


١ بنو بياضة: بطن من الخزرج من الأزد من القحطانية وهم بنو بياضة بن عامر بن زريق بن عبد الحارثة بن مالك بن غضب من جشم بن الخزرج. "معجم قبائل العرب" "١/ ١١٢".
٢ وجد: حزن.
٣ أخرجه البخاري في "مناقب الأنصار" "٣٧٩١".
٤ السابق.
٥ من كبار علماء اليهود، أسلم وحسن إسلامه، وأنزل الله تعالى فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: ١٠] .